لم استبشر خيرا عندما خرج جون بولتون على العالم، وبشكل خاص على الخارجية الأمريكية، بما أطلق عليه استراتيجية أمريكية جديدة لأفريقيا. في الواقع يجب أن أعترف أنني لا أحب هذا الرجل منذ أن كان يؤدي دورا ثانويا في استراتيجية وضعتها جماعة ضمت عددا من أشرار المحافظين الجدد لتدمير العراق. وبالفعل دمروها. اختفى بعض هؤلاء الأشرار عن ممارسة أنشطة علنية واستمر عدد قليل يقدم استشارات أغلبها حسب علمي أضر بمصالح دول في الشرق الأوسط ويوجه جماعات الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة للحصول لإسرائيل على امتيازات أكثر وللدول العربية على صفقات فاسدة. لم يفاجئني ظهور جون بولتون بعد غياب طويل بل كان الغريب أن يأتي ترامب إلى الحكم وبولتون خارج بطانته. أظن أن أحدا من الكبار الذين تولوا مناصب هامة في البيت الأبيض ما كان ليقبل العمل وبولتون مستشارا للأمن القومي. وبالفعل خلت الساحة الآمنة.
استراتيجية بولتون الجديدة للتعامل مع أفريقيا ليست استراتيجية وليست جديدة. تعودنا أن يكثر صناع السياسة والإعلاميون استخدام كلمة استراتيجية دون أن يعنوها. وهي ليست حتى سياسة جديدة فمحتواها لا يتجاوز النية في إعادة ترتيب أولويات الولايات المتحدة في القارة السمراء ومن ناحية أخرى تحدي جهود الصين وروسيا نحو تطوير شراكات سياسية واقتصادية وأمنية عبر القارة. بمعنى آخر هي، وأقصد هذه الاستراتيجية، تلخص رد الفعل الأمريكي المتأخر جدا للنشاط المكثف من جانب روسيا والصين في أفريقيا، ولكنها في الحقيقة لا تقول شيئا جديدا.
دعونا لا ننخدع باللهجة المتعالية وبنبرة التعصب في خطاب جون بولتون الذي قدم به استراتيجية أمريكا الجديدة. الخطاب في مجمله والاستراتيجية في محتواها تعبران عن حقيقة القوة الأمريكية في حالتها الراهنة. تعبران أيضا عن عمق التناقضات التي تفجرها يوميا مواقف الرئيس دونالد ترامب وتغريداته حول الشؤون الخارجية. ترامب يضعف حلف الناتو أحد أهم أرصدة الولايات المتحدة كقوة أولى في العالم وفي الوقت نفسه يغضب حين يسمع إيمانويل ماكرون وهو يردد الدعوة الفرنسية التقليدية إلى إنشاء قود دفاع أوروبية منفصلة عن القوة الأمريكية ولكن متعاونة معها. ترامب يقلص ميزانية المعونات الخارجية في وقت يكلف فيه بولتون بوضع استراتيجية لمواجهة توسع النفوذ الصيني والروسي في أفريقيا. لذلك لم يقدم بولتون في خطابه وعودا للأفارقة بمعونات أو مشروعات بنية تحتية تتفوق على ما تقدمه الصين أو روسيا أو على الأقل تتعادل معها أو حتى تقترب. لم يكن سرا خافيا على واشنطن المجهود الروسي لإقامة شراكات مع دول أفريقية عديدة لاستخراج النفط وإنشاء محطات لتوليد الطاقة النووية. كان الاتفاق مع مصر نموذجا تعرضه روسيا على الأفريقيين ليحتذوه. هكذا صارت مصر وأنغولا وإثيوبيا دولا أفريقية رائدة في سباق إقامة مشروعات طاقة نووية في أفريقيا. هناك ستة عشر دولة أفريقية أخرى متعاقدة مع روسيا على مشروعات طاقة، أي على مشروعات عظيمة التكلفة وكثيفة الخبرة الأجنبية المطلوبة لإقامتها وتشغيلها وصيانتها. مصر، بالنسبة لروسيا، كانت في زمن ولى المدخل الطبيعي للنفوذ الروسي في أفريقيا. هي الآن بالنسبة لروسيا أحد المداخل كما صار السباق بين أكثر من اثنين فضلا عن أن موضوع السباق تغير فالسباق الآن على المادة الخام وثروات القارة وليس كما كان في زمن الحرب الباردة على النفوذ والأيديولوجيا.
أما من جهة الصين فحجم الاستثمارات أضخم بكثير. اختلفت التقديرات. هناك تقدير بان الحجم الراهن للاستثمارات الصينية المشغلة فعلا في حدود 142 مليار دولار ووعود معلنة بحوالي 167 مليار للسنوات العشر القادمة. لاحظنا أن بولتون لم يعرض أرقاما لمعونات أمريكية ولا مشروعات إنمائية مدروسة وأظن أن أمريكا لن تكون في وضع يسمح لها بأن تعلن عن أرقام من هذا النوع في القريب العاجل. للصين مشروع في تانزانيا لبناء ميناء كبير على شاطئ باجومويا، ولها في جيبوتي إلى جانب قاعدتها العسكرية الأشهر في حقل سباق الكبار، والصغار أيضا، أحلام بالحلول محل شركة مواني دبي لتملك ميناء دوراليه، وهو المشروع الذي يسبب للبنتاغون قلقا على مصالح أمريكا في منظومة أمن القرن الأفريقي. إن وقوع هذا الميناء ضمن نفوذ الصين يعني أنه سوف يشكل تهديدا مباشرا لحرية النقل والعبور إلى قاعدتها العسكرية في جيبوتي. لاحظ معي أن في جيبوتي الآن قواعد وتسهيلات لفرنسا ودول عربية خليجية وهي في انتظار عرض من روسيا لإقامة قاعدة عسكرية ومشروعات إنمائية. أضف إلى جيبوتي أنشطة مشابهه تقام أو سوف تقام في الصومال وإرتريا وعمان واليمن لنتأكد من صدق القائل بأن القرن الأفريقي برميل بارود يهدد سلامة من فيه ومن حوله.
لم يقدم بولتون أو غيره من المسؤولين الأمريكيين التزامات ووعود ترقي إلى مستوى ما التزمت به الصين وروسيا ودول خليجية وتركيا والهند وإيران. اكتفي الرجل في خطابه بمعهد التراث الأمريكي بالحديث عن أمرين، أولهما ترتيب أولويات المصالح الأمريكية في أفريقيا، عبارة كانت على الدوام في العرف الدبلوماسي غامضة وتخدم أغراضا متناقضة. الأمر الثاني، أنه في غياب النية أو القدرة في الارتفاع إلى مستوى ما تعرضه الدول الكبرى الأخرى لم يجد بدا من أن يشارك في الحملة المنظمة التي سبقت الإعلان عن استراتيجية أمريكية جديدة والغرض منها تشويه صورة المشروعات والسياسات الإنمائية التي تعرضها الصين وروسيا على الأفارقة ومن بعدهم يأتي دور الأسيويين وشعوب في أمريكا الللاتينية أو تطل على البحر المتوسط.
تركز الحملة الأمريكية المناهضة للتوسع الروسي على الربط بين جهود تدخل روسيا في الشؤون الأمريكية وجهود تدخلها في الشؤون الأفريقية، فالمسؤول عن توسيع النفوذ الروسي في أفريقيا هو الشخص نفسه الذي يتهمه المحقق روبرت موللر بالتدخل في الشؤون الأمريكية ويطلب استدعاءه للمثول أمام المحاكم الأمريكية. كذلك يتهم جون بولتون روسيا بأنها تسعى لزيادة نفوذها في أفريقيا عن طريق تمرير صفقات اقتصادية فاسدة أخلاقيا. لم يفته أيضا أن يشير إلى أن روسيا تعتمد في أفريقيا على حلفاء من زمن الحرب الباردة وبخاصة في دول ما زال يقودها زعماء مناهضون للديموقراطية. تزودهم بالمرتزقة وبالسلاح أو تبيعه لهم بأسعار منخفضة. من هذه الدول، حسب بولتون، الكنغو والسودان وليبيا وأفريقيا الاستوائية.
أما الصين فقد كان لها نصيب الأسد في حملة التشهير فهي تعقد مع الأفارقة، حسب حملة التشهير وجون بولتون نفسه، صفقات مبهمة تستخدم بواسطتها القروض لجعل الدول المقترضة رهائن لرغبات بكين وطلباتها. بولتون يتهم استثماراتها الخارجية بغزارة ثغرات الفساد فيها “فضلا عن عدم التزامها بمستويات أخلاقية وبيئية كتلك التي تلتزم بها أمريكا”. هو أيضا أتى على ذكر دول أفريقية تعاني الآن من مشكلات تسببت فيها القروض الصينية، من هذه الدول زامبيا وجيبوتي وكينيا علما بأن هذه الأخيرة تعتمد على الصين في أكثر من 70 بالمائة من مجمل دينها الخارجي ويقدر بخمسين مليار دولار.
في آسيا الوضع أشد تعقيدا. جاء في تقرير أعده “المركز من أجل التنمية العالمية” أن ثمان دول مهددة بإعلان عجزها التام عن سداد قروضها الصينية، من هذه الدول أربع دول أسيوية ودولة أفريقية هي جيبوتي. أما الدول الأسيوية فهي باكستان والمالديف ولاوس ومنغوليا. من ناحية أخرى عرف أن السيد مهاتير الذي وصل إلى الحكم محمولا على حملة انتقادات للصفقات المعقودة مع الصين ومنها مشروع سكك حديد ومشاريع لمد الأنابيب، أوقف العمل في عدد من هذه المشاريع. هذا التصرف نفسه سلكه السيد خان رئيس باكستان، هو أيضا استخدم حملته الاتخابية لانتقاد أساليب الصين في تنفيذ مشاريعها المتعددة في باكستان. وقد نشبت في كراتشي مظاهرات احتجاج على تدخل الصين في الشؤون الداخلية. نعرف أيضا أن الرئيس الجديد في المالديف غاضب من الديون التي خلفها الرئيس السابق تكلفة مشاريع نفذتها الصين منها مشاريع إسكان وبناء مستشفى بتكلفة مبالغ فيها ومدرج جديد في المطار وجسر يربط بين جزيرتين.
***
كادت تنتهي المرحلة الأولى من تنفيذ مبادرة الطريق والحزام. هنا اتفق مع رأي يعتقد أن القيادة الصينية قد تنتهز هذه الفرصة لتعيد النظر في المراحل التالية. أظن أن هناك في الحزب الصيني من يرى أن القيادة ربما تعجلت وتوسعت أكثر مما يجب. لا شك أن المسؤولين في الحزب استلموا معلومات كتلك التي تحصلنا عليه والتي تنبئ بغضب مسؤولين أفارقة وأسيويين إزاء بعض التصرفات الصينية وبخاصة غموض العقود. نسمع أن هناك في بكين من ينصح بالتريث وإعادة النظر حرصا على سمعة الصين كقوة عظمى في دول العالم الثالث. في نظر بعض قادة الصين كان يفترض أن يحتفي هذا العالم الثالث بالصين لا أن ينتقدها على هذا النحو أو ينساق وراء المنتقدين. لا شك عندي في أن بولتون ومن على شاكلته في الإعلام الأمريكي لعبوا دورا مهما في تشويه سمعة الصين، ولكن أظل مثل كثيرين، ويزداد عددهم، نعتقد أن الصين ارتكبت أخطاء جسيمة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والمثال بارز في شعبية الرئيس البرازيلي الجديد الكاره للنفوذ الصيني.
للمشكلة وجه آخر. العالم الثالث، وبخاصة آسيا، في حاجة ماسة إلى تجديد بنيته التحتية وهو لا يملك الأرصدة المالية اللازمة. الأرصدة اللازمة لا تتوفر حقيقة وبالقدر المعقول إلا في الصين. وبالتالي لا أمل يرجى في مرحلة مثمرة في أنشطة التنمية العالمية وبخاصة في العالم النامي إلا بأن تنتبه القيادة الصينية إلى ضرورة تحسين أداء مبادرة الحزام والطريق من خلال التركيز على عدة أمور أراها ضرورية، هذه الأمور هي أولا: إعلان النية والاستعداد لإعادة التفاوض حول الشروط الواردة في عدد كيبر من الصفقات واتفاقات القروض . ثانيا: تأكيد التزام الجودة في تنفيذ إنشاءات البنية التحتية. ثالثا: بذل جهد أكبر لإشراك دول أخرى كاليابان والاتحاد الأوروبي ودول النفط في العمليات الكبرى. رابعا: التزام الحذر الشديد بالنسبة للمشاريع ذات الصفة أو الأهداف السياسية. نعرف جيدا والصين تعرف أن مساوئ الاستعمار الغربي مازالت حية في ذاكرة شعوب أسيا وأفريقيا. نعرف أيضا، وتعرفه القيادة الصينية أن معظم شعوب العالم النامي تغلي بالغضب لأسباب عديدة، وإنها لن تتحمل أن تتحول بلادها إلى ساحات لسباقات أفيال تعيث إفسادا وتدميرا وصالات رهان وارتهان يجول فيها ويصول مغامرون من نوع جون بولتون وستيف بانون ومرتزقة يتحكمون وينهبون.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق