طلال سلمان

سؤال المثقفين: هل نستقيل او نرضى بالواقع؟

من يتأمل غيابنا العربي، ومن يبحث عن ضوء ضئيل، عليه أن يبدأ بالسؤال: “أيها الإنسان هل أنت هنا في هذه البقعة الجغرافية إنسان، أم مجرد شيء”؟

لو كنت موجوداً، لكنت فاعلاً على الأقل في المدى السياسي القائم، إنما من زاوية نقده ونقضه. أنت، أيها المثقف، أين نجدك؟ في معظم الحالات، نفتقد المثقفين، لأن إحتواءهم في مؤسسات السلطة، أكانت سياسية أو إعلامية أو دينية أو تربوية، لا يتم فقط من أجل إنتاج حالة جديدة، بل لـ”تجديد” حالة قديمة. التقدم ديكور، والديكور بحاجة إلى أصحاب الشهادات.

كل مثقف، واجبه الأول، أن يكون نقدياً. كل “مثقف” يداري الفريق الذي ينتمي إليه أو النظام الذي يدغدع غرائزه الموروثة، هو إنتهازي ومتواطئ وخائن. وأفدح خيانة، هي خيانة ذاته، إهدار قيمته وشل تأثيره. أسوأ المثقفين، هم الذين يبيعون ثقافتهم لغير مجتمعهم. مجتمع بلا مثقفين نقديين، هو مجتمع آسن، ملعون، طائفي، مفتت.. الخريطة العربية تقدم شهادة سوء سلوك عن خريجي الجامعات. إنهم باعة علم وتجار معرفة.

من هو الفاعل الاجتماعي في هذا المدى العربي المغلق؟ السلطة أولاً، مدعومة بالدين. السلطة والتمذهب توأمان. إن مسحاً بسيطاً للخريطة العربية، ومنها لبنان، يلمس هذا الزواج الرابح والمدمر معاً. ما هو مسموح عادة للمثقف هو الكلام فقط. الفعل ممنوع. العقاب حاضر. القمع مهنة عربية عامة وناشطة. الثقافة عند السلطة هي خطر إرتكاب التغيير. لذا، سهرت السلطات العربية، مدعومة بترسانات مذهبية ودينية متنوعة، على “تخليد الراهن”، و”تخوين البدائل”. السلطة ذكية وشريرة. تعرف أن الثقافة هي من صميم الواقع الاجتماعي وتأثيرها مستقبلي. السلطة والدين، يتعاونان معاً، على تأبيد الراهن وتخليد الماضي. نحن شعوب تعيش ماضيها الديني والسياسي والاجتماعي، وتمارس الحداثة بأدوات خرافية، تعود إلى معتقدات اسطورية وتواريخ ملفقة، وسير لا تسر ناقدها أبداً.

اول فعل نقدم عليه تعزيزاً للثقافة النقدية، هو البحث المعرفي عن آليات الفصل بين الموروث والحاضر، بين الدين والسياسة. العمل الثقافي جوهره النقد العقلاني لركيزتي المجتمع المترهل: الدين والسلطة. لذا، السلطة تقفل الواقع الاجتماعي، فيما يعتبر المثقفون النقديون أن نقد هذه البنى، هو الفباء واجباتهم، تجاه عقلهم والقيم التي تعتبر في صميم العمل التغييري. لا تغيير البتة من دون قيم المساواة والعدالة والحرية والتقدم والانتاج والمعرفة والحوار. المجتمع العربي مغلق. عندما يريد أن يفكر، يدعو إلى احتفالية، يساهم فيها مفكرون، ثم ينفض القوم عما قبل وعما لن يفعلوا. إذاً، لا بد من فصل الثقافة عن الدين والسلطة لانهما مجالان مختلفان عن مجال التجديد.

هذا الموقف الثقافي خطير جداً على السلطة وعلى الارومات الدينية. معروف جداً، من سقطوا شهداء الثقافة النقدية، منذ مطالع القرن العشرين حتى الآن. أسوأ ما حدث بعد ذلك، تحول المثقف إلى موظف، او سجين مطارد. فرغت الساحة للكلام العشوائي. الشاشات ملأت الفضاء العربي اكاذيب وتبريرات. الهدف تطويع المواطن وتطبيعه ثقافياً وسياسياً.

يصبح الانسان رقماً مطيعاً، قابلاً للجمع والطرح والضرب والقسمة. استعيض عن الثقافة والمثقف، بمؤسسات لرعاية “الثقافة”، وتوزيع الجوائز على “المثقفين”. هذا ينتمي إلى ثقافة المغالاة والمداهنة. ورصيدها يصب في مصلحة السلطة.

في الظاهر، هناك اشتباك غير متكافئ بين الثقافة والسلطة والدين. في أكثر من كيان عربي يطغى عليه الاشتباك الدموي الراهن بين عصابات الدين وعصابات السلطة: حروب أهلية متخلفة، من نتائجها هذا الدمار الذي لا قيامة به او بعده.

هل نستسلم؟ هل نقبل بالواقع؟ هل نستقيل؟ هل؟

Exit mobile version