طلال سلمان

سألتني حفيدتي وتسألني مدينتي: من أكون؟

مرت علينا ساعة أو أطول، هي تسأل عن الماضي وأنا أتهرب. الخطأ خطأي. لم أدرك في الوقت المناسب أن المكان أحيانا ما يفرض نفسه بندا على جدول أعمال اللقاء. إمعانا في الخطأ افتتحت الحديث بكلمات كان بينها على ما أظن، يا الله ما أحلى اللحظة وأجمل المكان، وكان آخرها بالتأكيد، يا لها من أيام. تجاهلت رفيقة اللقاء جدول الأعمال وقررت منفردة تأجيل النقاش حول ما جئنا من أجله وراحت تسأل عن “الأيام”. قالت أسمعك تشيد بمنظر النهر وقد عاد كما كان يعود في هذا الشهر ممتلئا وسريعا وبسمرة جذابة، ولكن رأيتك تغيب كثيرا، تغيب عني وعن النهر وعن الغروب، يشدك بعيدا عنا هذا المبني المشيد على الناحية الأخرى من الطريق. لا أحد يطل منه ولا ضوء يتسرب منه. مبنى لا حياة فيه ولكنه يأخذك مني ومن الاستمتاع بحلاوة اللحظة وجمال المكان ومن العمل الذي ينتظرنا.

تريثت قبل أن أجيب. خفت على حلاوة اللحظة وجمال المكان وأشفقت على نسمة المساء الطرية ولكن ألحت فأجبت. نعم، يشدني دائما هذا المبنى، ففيه قضيت بعضا من مقتبل عمري. هنا تعرفت أكثر على معنى الوطن ومعان أخرى كثيرة. هنا تعرفت على سعادة تتجاوز المرجو والمعتاد. هنا تقلبت على جمر الألم والتعاسة، جمر يتخصص في صنعه ورعايته مبدعون، لا من خالق يخافون ولا بأخلاق يرتدعون. هنا وقعت ضدي وشاية كبرى وجاءني اعتذار متأخر. هنا اكتشفت قيمة الرجولة كما فهمها أبناء زمن أقدم. هنا عرفت كيف يزينون لمواطن واعد ومؤهل وجاهز للعطاء طريق الرحيل، طريق في اتجاه واحد، طريق نحو اللاعودة. هنا لمست أصابعي المخمل الذي كانت ترتديه القوة والنفوذ وتخضبت بالدم حين رفعت المخمل لتشتبك مع الشوك المسموم. هنا في هذا المبنى عرفت كم مصر عظيمة بشبابها وكم هي فقيرة بقادتها. هنا وأنا ما أزال غضا قليل الخبرة فائر الحماسة تنبأت بالكارثة. من هذا المبنى رحلت.

قلت لرفيقتي تعالي نتوقف عن الحديث عن الماضي وننشغل بما أتينا من أجله. تعالي ننسى أن هذا المبنى موجود وأن أشباح الماضي ما تزال تعشش فيه. قالت أظنك لم تفهم بعد قيمة هذا الماضي الذي تتهرب من الحديث عنه. حديثك المقتضب عن ماضي هذا المبنى الذي لم أهتم به يوما رغم كثرة ما مررت به يدفعني لأعيد التفكير في كثيير مما كنت أنوي عرضه عليك في لقاء اليوم. من فضلك أكمل حديث هذا المبنى. لبيت رغبتها واستغرقني الحديث ولم أتوقف حتى بعد أن غاب القمر وغادرنا المكان.

***

في اليوم التالي اتصلت حفيدتي ووصلت وجلست وعلى الفور سألت إن كان وقتي يسمح. قلت طبعا يسمح. بل كل الوقت لك. راح ظني إلى أنها تريد رأيا في قرار عن المستقبل. هكذا يروح ظني دائما عندما يطلب الشباب الالتقاء بي. الشباب بالنسبة لي يعني المستقبل. ماضيهم حفنة أيام وماضينا، نحن الأهل، بالنسبة لهم تاريخ. فاجأتني الحفيدة. ها هي أمامي وقد تربعت تطلب الماضي. قالت “أريد أن أسمع منك ما يكفي لأعرف من أنا”. أرادت توصيفا دقيقا لهويتها ومصادر هذه الهوية. من أي روح خرجت، في أي بستان أينعت، في أي بلاد عاش أجدادها وأجداد أجدادها.

تحدثت فأفضت. أسمعتها رواية الجد الألباني الذي جاء في صحبة أو تحت قيادة محمد علي باشا، وحكاية الجد المغربي الذي استوطن عكا وحدوتة الجدة من الحجاز التي اصطحبها عند العودة جد كان يحج. أطنبت في سرد تفاصيل حارة الوراق في قاهرة المعز حين كان جدودها من أصحاب المكتبات والمطابع في القرن التاسع عشر يغلقون أبوابها عليهم أثناء الليل. سمعت مني، وطلبت الاستزادة، عن جد غير بعيد كان وقبيلته يمارسان الغزو والنهب في صحراوات قريبة من الأناضول، حتى قرر السلطان تعيينه واليا على القطاع ومسئولا عن أمن القوافل والحملات العسكرية. بدت معترضة في احترام بل كادت تعلن رفضها فهم أو تفهم رواياتي عن جدات لها تزوجن ولم يبلغن الخامسة عشر وها هي في السابعة عشر لا تفكر ولا أحد يفكر لها في هذا الموضوع.

رأيتها منتشية بما سمعت. لم تمل. لم تشرد. لم تنظر في هاتفها المحمول إلا مرة واحدة على امتداد ساعتين أو أكثر. أعترف بأنني توقفت عن عمد قبل أن نصل بالأسئلة والفضول إلى مرحلة أحدث، مرحلة تقترب بنا من أحداث شهد عليها المبنى المطل على النيل واستهلك الحديث عنها ليلة الأمس.. هي الأحداث التي في مجمل تداعياتها وحلقاتها المترابطة نقلت مصر في مدة وجيزة من حال البلد الجاذب للغرباء إلى حال البلد الطارد لمواطنيه. نهضت مودعة بعد أن حصلت على وعد مني بجلسات أخرى عن الماضي الذي تحرجت من الخوض فيه أمامها. تريد أن تعرف كل شئ عن نفسها قبل أن ترحل. “أنا راحلة يا جدي، إلى مستقبل أشيده بنفسي في بلد آخر يحترم قادته ذكائي وحقوقي ويقدرون طموحي”.

***

قرأت ما كتبته مي الإبراشي عن التراث وحظي بإعجاب الكثيرين واهتمامهم. قالت أشياء كثيرة كلها تستحق الوقوف عندها والتأمل. عشت سنوات أطل على كورنيش الإسكندرية منذ كان رمزا لعروس البحر المتوسط حتى صار غابة لصروح أسمنتية متنافرة. عشت أيضا سنوات النشأة والتطور في حي المهندسين وأعيش فيه الآن مرحلة تدهوره. عشت مددا متفاوتة في مدن بالريف المصري أو على سواحلها وفي مستوطناتها المسورة التي صارت تحيط بالقاهرة. عشت منذ خرجت عائلتي من قاهرة المعز في أحياء ومدن وقرى وسواحل لا طعم مصريا لها ولا لون. عشت أقارن بين غرب أصيل عشت فيه سنوات الدراسة وبعض سنوات العمل وبين غرب مصطنع أو مزيف نعيش فيه الآن. اعترفت حديثا أنه لولا منظر النيل في الصور السياحية لما عرفت أن الصورة للقاهرة عاصمة الدولة التي ترث أطول ماضي وأعظم تراث. العمائر في الصور منقولة عن عمائر خليجية أو في أحسن الأحوال إيطالية وفرنسية، كل واحدة منها لا علاقة لها في الرسم أو التخطيط أو حتى في السكان بجاراتها من العمائر. تمشي فيها كأنك تمشي في غابة من أشجار لا تنتسب لبعضها ولا أصل واحد لها. القاهرة كالإسكندرية وطنطا وأسيوط مدن بلا ماض. مدن يجب أن تبحث عن ماضيها لتصنع هويتها وتكتشف أصلها وتتعرف على نفسها.

***

الطيب والشرير اشتركا في صنع ماضي لا أنكره وحتى لو شئت فلن أستطيع. أجدى لي ولهويتي ووطني أن أعترف به. لست مع الذين يقتلعون التماثيل في المدن الأمريكية أو مع من اقتلع تماثيل صدام حسين في العراق وعائلة الأسد في سوريا والشاه في إيران وبيرون في الارجنتين وهتلر في ألمانيا وستالين في روسيا. حرب أهلية توشك أن تشتعل في مولدوفا بسبب تمثال لفلاديمير لينين. أنا لا أخاف الماضي كما يخافه الداعشيون، أريده حيا في الذاكرة، أريده جزءا من هويتي. أتمنى الفشل لكل مسعى يهدف إلى طمس جزء أو آخر من هوية الوطن، هويتي وهوية أحفادي من حولي ومن بعدي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version