طلال سلمان

زيد مطيع دماج و»رهينته« الممتازة…

زيد مطيع دماج و»رهينته« الممتازة ..

كمثل معظم الذين زاروا صنعاء وتعز وعدن وأنحاء أخرى من مملكة سبأ القديمة، كان سهلاً عليَّ التعرف على اليمن، على صعوبتها وغموض طبيعتها، أما معرفة اليمنيين فوجدتها تتطلب المزيد من الوقت ومن الجهد ومن الدراسة ومن تعلم فن فك الرموز والألغاز والطلاسم، ومن قراءة ما خلف الشكل والوجه الطفولي المتجهم الملامح.
ولأن الطبيعة متقلبة، وغضبها سريع ومدمر، سواء اتخذ شكل السيول أو الزلازل أو العواصف، فإن اليمني يعيش حالة توفز دائماً،
ولأن اليمنيين ينطوون، بمرارة التجربة، على الكثير من الحذر والتخوّف من غدر الزمان أو من غدر السلطان، فقد اختاروا أساسا أعالي الجبال، ثم القمم من الأعالي، لبيوتهم التي غدت حصونا وان صعب عليهم هم بالذات الوصول إليها.
وفي العديد من مناطق اليمن، ترتفع الجبال ذات الأشكال الخرافية، والتي تبدو وكأنها قد ولدت جميع أساطير التاريخ، بما فيها الأساطير الدينية، ثم حلّت عليها اللعنة فتشققت وانفلتت قممها مدببة أو حادة، شاهقة الارتفاع ومسننة كأنها مسكن الغيلان وأبطال الحكايات أمثال »الشاطر حسن« و»السندباد«.
هل هذا يفسر بعض طباع اليمنيين وحذرهم الدائم وتحفزهم المستمر لمواجهة المجهول والصعب؟!
ربما، ولكن لا بد أيضاً من تفسير آخر يتصل »بالسلطان«،
عن عهد الإمامة ومجرياته كتب زيد مطيع دماج روايته الجيدة »الرهينة« مقدما فيها مجموعة من الشخصيات النماذج لمختلف الفئات والشرائح الاجتماعية بدر يشيج الإمام، وولي عهده سيف الإسلام، ثم نوابه في الأقاليم، و»الشريفات« والأعيان والعسكر الأقرب الى الانكشارية، وأخيرا الشعب ممثلاً بالمسحوقين من أتباع ومنافقين أو عصاة يتخذ الإمام من أبنائهم الرهائن، و»الدويدار« وهي وظيفة أدنى من »غلام« وأرفع من »عبد« وأكثر من »خادم« وأدق بخصوصية مهماتها من هذه الوظائف مجتمعة.
يعرّفنا زيد على مباذل أهل السلطة المحصّنين بألقاب الأشراف، وتتبدى »الشريفة حفصة« كشخصية متميزة في عشقها ومجونها الذي يبدو في لحظات وكأنه انتقام من ظلم ذوي القربى وفي لحظات أخرى وكأنه »تحرر« من عبء اللقب واستعادة للأنثى المتروكة يتهددها أن تصبح عانسا تضاف إلى قائمة الشريفات العوانس اللواتي يلجأن الى إرواء ظمأهن مع أفراد الحاشية من مرتبة »دويدار« فما فوق.
ويعرّفنا على نائب الإمام في مجلس القات، وهو يتصرف كسلطان، ثم كيف ينقلب الى مجرد تابع حقير حين يرجع ابنه من دراسته في الغرب ومعه سيارة هي الأولى التي تدرج على الطريق غير المسفلت، فيبادر تحت ضغط خوفه من الوشاية الى تقديم السيارة لصاحب السلطان الأصلي من بيده أن يعيّنه أو يعزله أو يعدمه بغير مساءلة.
أما الشخصية الألطف التي نتعرّف عليها فهي »الدويدار« الأصيل، الرقيق، والواعي المدرك لكل ما يدور حوله، والصامت حتى الخرس لأنه يعرف ان ذلك من أصول المهنة، وهي الأصول التي اجتهد أن ينقلها الى صديقه »الرهينة« المرشح لأن يكون »الدويدار« الجديد.
»الرهينة« رواية ممتازة، لقلم متمكن، وقد يكون تقصيراً اننا لم نتعرف الى هذا الروائي المتميز زيد مطيع دماج، ولكن ان نصل متأخرين خيراً من ألا نصل أبداً، خصوصاً وانه »لا بد من صنعاء ولو طال السفر«.

 

من يوميات رحلة داخل الموت!

ما زال يدوي الدويّ ويملأ الأذن والقلب والذاكرة، وما زالت الطلقة تحفر طريقها في الجلدة اللحمية الرقيقة للوجه المثقل بالسمرة والسهاد وتعب الهموم الفائضة عن القدرة على التحمّل.
يعبر الدويّ السنين ويحملني معه، فأحمله، وتحملنا معاً طفولتي الثانية.
لسن المراهقة أعذاره الكثيرة، فلماذا لا يأتيني عنه ومنه إلا اللوم؟!
أمشي مثقوب الصدغين، ويسري الدم بعرض الجبين، قبل ان يتغلغل عبر ثنايا القميص المحروق، سالكا المعبر العميق بامتداد الظهر ليتقطر فوق اسفلت الطرق، فيمتصه بلا صوت، بينما ينفذ بعض الرذاذ الاحمر الى البلاط امام البوابة الحديدية فيؤرخ بالظل النجيعي الداكن لهذا الفجر التموزي المضاء مرتين!
كيف تقيم في المسافة بين طلقتين؟!
كيف يمكنك العيش محبوسا بين الدويّ والصدى؟!
يشرق وجهك فيملأ المسافة، وتتلاشى ضوضاء الموت الذي كان قد شدني اليه فاحتضنني واحتضنته وتلاصقنا حتى تماهت الحدود بين الأصغرين.
وترفّ كلمة »حبيبي« فتزهر العتمة ياسمينةً، ويتوهج فلّ له مثل عطرك.
أسمع هسيس دمي وهو ينسرب من خلف الأذنين وعلى امتداد العمود الفقري الى الحذاء، قبل ان يندلق ومعه عمري على حوافي الرصيف المرطّب الآن.
يملأ وجهك المكان فيحجبني عن الموت ويحميني، وأعجز عن الهتاف بكلمة »أحبك« ولكنك تسمعينني، وأحس بأهدابك ترفّ عليّ وتمسح عن جبيني عرق الخوف وآثار أقدام الموت الصيفي البارد.
أحسك تهدهدينني داخل الطلقة، داخل الدويّ، ثم داخل الصمت الساجي حيث تتداخل الحدود بين موت الليلين وإشراقة الصباحين العفية.
وحين تبزغ خيوط الضوء الاولى وتتكامل عبرها ملامحك، أقرر أن الحب هو فرح الحياة الأعظم، وأقرر أن افرح، ولو كان عنواني عرس الدم.
وتبقين، أيتها الخارجة اليّ من موتي، مصدراً للنور في حياتي الجديدة التي اريدها ان تدوي باسمك لكي يفرح الناس، ولكي يستمدوا منك المعرفة بأن يحبوا ليعوّضوا الأعمار المهدورة كطلقات طائشة تنتهي عندما يسود الصمت رصاصات فارغة لا تنتظر غير الريح ليصفر من خلالها لحن العبث اليومي المفتوح.

بيني، وبينك الصورة..

أثوب اليك كل مساء، وتأتيني من عينيك المغفرة كل صباح، وتمدين يدك تشيرين اليّ أن تقدم، وانت الغد والطريق والدليل.
أمشي اليك فيبلغك قبلي نبض خافقي، وأظل بعيدا، أستجمع كسور اعتذاري، وأحاول ان اقول فلا يصلك غير صمتي.
بيني وبينك الصورة: أراك فيها غابة من الاحلام ممتلئة حتى الوعي بالزهور البرية والنحل وطيور الحب والفراش المنتثر من حولك، إطارا من اللهفة والحنين والرغبة في تعويض زمن الشقاء.
وأتعذب حين أتحقق من ان نصفك فيها، وان النصف الآخر قد غادرها، وانك تركت عينيك تحيطان بي حتى العناق، وأحار: هل هو الحب ام التعفف عن ايذاء الضعيف؟!
أصغر منك الانتقام، ولا تتحملين اسفاف التشفي.
وصورتك تنظرني ولا تقول، وانظرها فلا اتحمل صمتها، واخاف ان تنطق فأرتعد وانزوي في ظل عاري.
وبينك وبين صورتك جيلان، او ثلاثة، بل عشرة أجيال.
لا هي تتسع لك بعد، ولا انت تقبلين ان تظلي معتقلة فيها،
والعمر حبل مشدود في طرفه أنشوطة أرى نفسي أتأرجح عبرها، احاول الوصول اليك فلا تطالك يدي، واحاول ان ارفع عنك بعض اثقالك فلا أتسبب الا في زيادتها… وتبادرين فتأخذين عني الوجع الجديد!
متى تغلغل كل هذا الشحوب في ثنايا ورق الورد فسرق منه الرواء وإن احتفظ بعطره النديّ وبنبل الألم المكبوت كمثل كبرياء الشهداء؟!
وعيناك بحيرتا فرح، وانا غريق الصباحات والعشايا.
هل ينفع الندم في مسح الذنوب، وكيف يتم التعويض عن العمر المسفوح خلف خطأ التقدير او المبالغة في توفير اسباب الطمأنينة؟ اذا لم يطمئنك الحب فمن أين يأتيك الفرح؟!
واذا لم يفض من قلبك الفرح فكيف يأتيك الحب؟!
أطمع بالمزيد من الحب فأخسر الفرح، وأطلب المزيد من الفرح فيذهب الحب، وتتطاير أوهام الطمأنينة كتبن في العاصفة؟!
وأنت لا تعاتبين، والجواب يتلجلج ثم ينتحر على باب عينيك المفتوحتين للمغفرة.
وتطوف بحور الالم. تغطي غابة الاحلام بزهورها البرية والحساسين والفراشات التي لا تعي ومع ذلك تستمر تطرز النهار بأردية الجمال وتتسلل الى قصائد الشعراء فتزركشها ثم تحملها على اجنحتها الى عينيك فتجدهما اجمل منها فتنثرها من حولهما حتى لا يبلغهما إلاّ مَن شفّه الوجد فذاب روحاً.
في ظل عينيك أعيش، وبوهجهما أستضيء.
وها أنا أدور أجمع لكِ القصائد المطرزة بشمس الليل والتوبة.

»لا« تصنع مجد »وشم«

لم تتكشف الصورة الاصلية لفرقة »وشم« الا خارج »الاحتفال الرسمي«.
في المسرح، ومع الجمهور الذي أخذته الدهشة بالجديد، كان وقار المناسبة يمنع الحكم الصحيح، لأن الاطار العاطفي يعطل المحاسبة الفنية.
لكن ذلك كله لم يحل دون اكتشاف انك امام مزيج من فرقتين ونغمين (او اكثر) وعالمين، وطريقتين في الغناء، ومفارقتين اكيدتين: ليس الطرب هدفا للمطرب ذي الصوت القوي، ولكن الصوت القوي يأخذك الى خارج المعنى وإن أبقاك على تخوم الطرب.
فبين الصوت والايقاع مسافة شاسعة لا يملأها العودان ولا براعة ضابط الايقاع الذي يعزف بجسده وشعره قبل يديه وأدواته الكثيرة.
وبين صدر البيت وعجزه هدأة من الصمت تتفجر بعدها عاصفة الصوت والنغم، وقد توفر لك الوقت او الانتباه الكافي لكي تتخمر الكلمات ومعانيها في ذهنك فلا تفقد منها ذرة من متعة المعنى.
في »وشم«، وبقرار واع، تم تزويج افريقيا واوروبا والمشرق العربي (الآسيوي)، وتداخلت اسبانيا والمغرب ودمشق حتى ركب البحر الجمل واقتحم الفرسان المحيط وغطوا سطحه بأحزان الصحارى المحمولة في قلوبهم المتعبة بالحب.
أجمل كلمة قالوها هي »لا«.
كأنما ثمة علاقة حميمة مع كلمة »لا«. كلما بلغها المطرب المقاتل شدته الى دلالاتها العظيمة، خارج اللحن والمغني. لكأنه يرفع صوته (وأصواتنا) بالاعتراض المطلق على كل شيء من الدين الى السياسة، من الثقافة الى السلوك الاجتماعي.
»وشم« هي »فرقة لا« مغنّاة بأصوات شعراء الصوفية القدامى من أمثال النفري والحلاج وصولا الى صوفيي القرن الحادي والعشرين بقيادة أدونيس.
عازفان من بلجيكا في حلقة ذكر بالنغم المغربي،
وشيء من ناظم الغزالي معطوفاً على صباح فخري ومنتهياً عند ابواب محمد عبد الوهاب، ثم مباغتة هؤلاء جميعا بعاصفة جاز لا تبقي ولا تذر الا الصوت الهادر المرتفع والقادر على رفع سقف المسرح حتى حدود النشوة والوجع.
وأم كلثوم يمكنها الانتظار الى ان يجيء زمن الغناء، فتهدأ العواصف ويرفرف طير الحب فيأخذ الناس الى وجع النشوة ويهدهد لهم حتى يناموا قليلاً.

 

حوار مبتور

قال: لكل امرأة ثمن، وأنا أغلى من أكون ثمنك..
قالت: بعض الرجال أقل من ثمن التفاتة من امرأة..
قال: دعينا ننهِ الامر بهدوء. التقينا، اختلسنا لحظات من السعادة، ثم حانت لحظة الافتراق، فلماذا لا نفترق ببساطة، بلا احزان ولا ذكريات موجعة.
قالت: وهل كنت انتظر رجلا ما على الرصيف؟! لقد سعيت اليّ، طاردتني، منّيتني بتعويض ما فاتني، غزلت لي من شعرك احلاما، ثم تريدني ان اعود الى موقعي فوق الرصيف انتظر رجلا ثانيا ليوم آخر؟!
قال: لم يكن بيننا الا شيء من الاستلطاف استولدته احاديث المصادفة والرغبة في قتل الضجر؟!
قالت: هل قتلت بي ضجرك؟! عظيم.. فماذا عني؟!
قال: يحب البعض ان يربي ضجره فيأنس به في ليالي الوحدة..
قالت: الضجر أفضل منك. فاذهب بلا لعنة. لعنتك فيك. وأنا أعرف عنوانك: الرصيف الثالث الى اليسار.

 

من أقوال »نسمة«

قال لي نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة الا الحب:
كيف يغيب. عنك حبيبك؟! انه في كل ما هو عذب او جميل. انه في خيوط الفجر كما في بنفسج المغيب. انه في ذوب الضوء المنسرب من نجمة بعيدة كما في تغريدة فرح تصدر عن بلبل يحاول كسر باب قفصه بنشوة التذكر. انه في رفيق الورد الجوري، كما في انعطافة الياسمينة ليلاً، وهي تنطوي على عطرها في انتظار الساهرين مع طيف الحبيب.
أُخذت بصوفية هذا المحب، فساد الصمت لحظة قبل ان يعود فيقول:
تتعب حين تحاول النسيان. فالحب يغمرك كالطوفان، ولا خلاص، أدام الله عليك نعمة الطوفان!

Exit mobile version