طلال سلمان

زيارة رايس في بيان وزاري علاقة مع دمشق عبر بيروت

لن يكون البيان الوزاري لحكومة ما بعد الانتخابات النيابية، بكل ما حفلت به من تشوهات أصابت المجتمع في لبنان، »البلاغ الرقم واحد« للحرب اللبنانية ضد سوريا، بل لعله سيكون أقرب إلى »إعلان وقف إطلاق النار« تمهيداً لهدنة تسمح بإعادة صياغة العلاقات بين الدولتين المتكاملتين بقوة المصالح وروابط الجوار الذي يكاد أن يكون أخوة.
ولم تأت كوندليسا رايس إلى بيروت لمجرد أن تعلن »الانتصار« على دمشق، بإخراج جيشها (ومخابراتها) من لبنان بصورة لا يمكن التخفيف من واقع أنها »مهينة«، بل لعلها جاءت لإعلان فض الاشتباك تمهيداً لوضع العلاقات اللبنانية السورية تحت رعايتها المباشرة.
لقد انتهت »الحقبة السورية«، وكان بين مرتكزاتها أن تخاطب واشنطن (ومعها سائر العواصم) لبنان، وأن تتعامل معه عبر دمشق.
الآن يبدو وكأن واشنطن حسمت الأمر، مرتكزة على جملة التحولات في الداخل، فضلاً عن المناخ الدولي الضاغط على مركز القرار السوري، فقررت أن تتعامل مع دمشق من بيروت وعبرها. وبهذا يتكامل الطوق المضروب حول العاصمة السورية والممتد من »المركز« في تل أبيب، إلى بغداد تحت الاحتلال (ومعها عمان) والذي قد يشمل القاهرة، أحياناً، والرياض حين تدعو الحاجة ومعها معظم أقطار الخليج. لم تعد دمشق »عاصمة الإقليم«. صارت في عين واشنطن واحدة من العواصم العادية الموضوعة تحت الفحص، لا امتياز لها ولا حظوة ولا دور مسلّماً لها به في »دول الطوق« التي تكاد تصبح أطرافاً متكاملة في تطويق سوريا.
* * *
لقد أنجز »التغيير« في لبنان بحدوده القصوى: لم تخرج سوريا مدحورة فحسب، بل تساقط معظم أركان الحقبة السورية من السياسيين، وأخرجوا من دائرة القرار، بينما عاد إليها بالمقابل كل من كانوا مطرودين أو مطاردين، مدانين في الشارع أو أمام القضاء، كأبطال محرّرين أو قديسين وإجمالاً كقادة لثورة قمعت عشية انتصارها، شعبياً، بقوة التفويض الأميركي للسوريين ليس إلا..
أما وقد تبدل القرار في واشنطن فلتقرع أجراس النصر لمحرري لبنان أبطالاً وقديسين.
ولم تكن مصادفة أن تغفل كوندليسا رايس أية إشارة إلى اتفاق الطائف، ربما لأنه كان أو أنه صار بعد الغزو العراقي للكويت عنوان »التفويض الأميركي لسوريا بالشأن اللبناني«. للمرحلة الجديدة عنوان آخر: لا تفويض ولا توكيل بل ستكون الوصاية مباشرة ومعلنة.
لقد انتهت مرحلة مؤتمر مدريد. وتكفلت إسرائيل بإسقاط مرحلة اتفاق أوسلو الذي عليه قامت »السلطة الوطنية الفلسطينية«. انتهت مرحلة ما بعد تحرير الكويت. صرنا في مرحلة ما بعد »تحرير« العراق (من دولته وعروبته ودوره). صرنا في مرحلة ما بعد تحرير إسرائيل من فلسطين، والعرض الوحيد أن تكون غزة هي أرض الحلم مع ممرات عبور إلى المعازل الفلسطينية المحاصرة بجدار الفصل العنصري داخل الضفة، في حين تكاد القدس (العربية) تذوب في »العاصمة الأبدية لإسرائيل«.
على كل دولة عربية، الآن، أن تنخرط في محاصرة جارتها. ليبيا تحاصر مصر المحاصرة أصلاً والمحصورة داخل حدود ضعفها والخوف من الجوع وعجزها عن المبادرة. جنوب السودان يحاصر شماله المتورطة قيادته في حروب في الغرب والشرق. (كانت لافتة تلك القبلات التي تبادلتها رايس مع قائد التمرد (سابقاً) جون غارانغ، نائب الرئيس الآن، في حين أن مشكلة بروتوكولية أضفت مزيداً من البرودة على لقائها مع رئيسه البشير ووزير خارجيته). ثم، إن الأردن يضيّق الحصار على ما تبقى من فلسطين بينما المعابر من مصر وإليها تكاد تنغلق، وبينما يمزق شارون »خريطة الطريق« داعياً ضيفته إلى الفطور، صباحاً، إلى تأمل قطعان الأغنام والأبقار التي يربيها في النقب، بعيداً عن صداع السياسة وإشكالاتها التي لا تنتهي.
* * *
لدى وزيرة الخارجية الأميركية، أخيراً، الكثير من الوقت للبنان: سبع ساعات! وهكذا فقد تمكنت من أن تتنقل بين دارة الراحل الكبير رفيق الحريري في قريطم حيث التقت »زعيم الأكثرية« النيابية الشاب سعد الحريري لقاء له دلالته القاطعة وتأثيره في الحاضر والمستقبل، قبل أن تنتقل لوضع إكليل من الورد على ضريح الرئيس الشهيد، في ساحة الشهداء… وبعد ذلك قصدت رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ثم رئيس الحكومة (البديل) المتهيّب من ثقل المسؤولية، والذي لم يكن يتوقع مثل هذه التزكية الدولية الممتازة، أقله بهذه السرعة.
ثم إن الوزيرة المشغولة بأمور العالم كافة، وجدت فائضاً من الوقت لتلتقي في مركز السفارة »زعيم المعارضة« النيابية، المعروف جيداً في الكونغرس بدوره في »قانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان«.
… ولولا بعض المعوقات الأمنية التي أخرت خروج سمير جعجع من سجنه، بقانون العفو الذي أقرّ بغير تصويت، لكانت الوزيرة الأميركية قد شدت على يديه مباركة ومهنئة بوصفه من صنّاع »العهد الجديد«.
إضافة إلى الوقت فقد كان لدى كوندليسا رايس الكثير من الوصايا التي تؤكد الوصاية من حيث تريد التخفيف منها: أكدت على الموقف من »حزب الله« مع علمها بأنه شريك لأول مرة في تاريخه في الحكومة الجديدة، وذكّرت بالقرار الدولي 1559 تاركة للبنانيين أن يتعاملوا معه »بحكمتهم«، وتجاوزت »التمديد« لتعيد التأكيد على شرعية رئيس الجمهورية التي كان الطعن فيها رأس الحربة في موقف العديد من وزراء الحكومة الجديدة.
… ثم إنها ذكّرت بحقوق الجيرة، وهي تخاطب السوريين بلوم مهذب على »التحرشات« التي صارت »الحدود« مسرحاً لها في الأيام الأخيرة.
حسناً، هو »الإذن« بفضّ الاشتباك، والعودة إلى تنظيم العلاقات بين الجارين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر، تحت الرعاية الأميركية المباشرة: ممنوعة هي الحرب السورية على العهد الجديد في لبنان الذي لن يذهب إلى الحرب مع سوريا حتى إلى دمشق ذاتها.
* * *
لكن كوندليسا رايس ليست ضيف الخطر الوحيد في المدينة..
فما إن اختتمت الوزيرة الأميركية زيارتها القصيرة إلى لبنان وعادت لتنام في حضن الأمان الإسرائيلي، حتى كان »الإرهاب« يضرب مصر في صميمها، مرة أخرى.
لم تترك الجريمة الجديدة البشعة متسعاً لاستعادة الذكريات الحميمة، واستذكار الزمن الجميل، وهكذا ضاعت صورة جمال عبد الناصر وإنجازات ثورة 23 يوليو في زحمة الأخبار عن الزلزال الدموي الذي ضرب شرم الشيخ، باسم العمى الديني، ففتحها للموت وقد كانت مفتوحة لإجازات الاستمتاع بالحياة.
غابت صورة القائد الذي لم يمته الموت عن الشاشات وصفحات الصحف التي صدرت مجللة بسواد الإرهاب باسم التطرف الديني الذي لم يقتل في الغالب الأعم إلا المؤمنين بالله وباليوم الآخر، في أربع رياح الأرض، والذي يساعد الاحتلال الأميركي في العراق، بمعزل عن الادعاءات، والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والذي يضرب إرادة التغيير ويمكّن لحكام التخلف..
أما في بيروت التي غادرتها رايس مطمئنة إلى التزام الجميع فيها بمقتضيات المرحلة الجديدة، فقد أفسد عليها تمني الخلاص من كابوس الرعب الذي يقضّ مضاجع أهلها ويسمم حياتهم، منذ شهور الموت الطويلة، تفجير إضافي استهدف قلبها، كأنما ليعلن أن »الزيارة« ليست إعلاناً لنهاية ما كان، بل هي قد تكون إيذاناً بما سيكون في عهد الوصاية الجديدة..
* * *
لقد أقرت لجنة الصياغة، إذاً، النص النهائي لمشروع البيان الوزاري الذي سيعرض على مجلس الوزراء لاعتماده، تمهيداً لنيل الثقة على أساسه من المجلس النيابي الذي ينقسم إلى أكثريات متحالفة ومتعارضة في آن..
بعده تمكن مباشرة العمل في حقل الصعوبة المزروع بالألغام..
لكن البيان الذي يستحيل أن يكون إلا مجموعة من التسويات التي ترضي جميع الأطراف من »الحلفاء« الذين كانوا »أعداء« إلى »الأعداء« الذين لم يقبلوا أن يصيروا »حلفاء« وفضلوا اللجوء إلى »ربط النزاع« مع أركان »العهد الجديد«، في انتظار استكشاف الثابت والمتحول في المرحلة الجديدة، سينال غداً أكثرية الأصوات… من دون أن يعني هذا أن الصوت المعطل قد تمّ تعطيله، فعلاً بزيارة السبع ساعات التي أعطت إشارة الانطلاق للمرحلة الجديدة.

Exit mobile version