طلال سلمان

زيارة بابا تباساتها كثيرة

من الطبيعي أن يرحب العرب بأي زيارة للبابا إلى أي من أقطارهم، ليس فقط لأنهم بطبيعتهم »مضيافون«، بل لأن الإيمان بالرسالات السماوية والتسامح الديني الذي نشأوا عليه يفرض عليهم أن يفتحوا قلوبهم قبل أبوابهم للمرجع الأعلى للكاثوليكية في العالم، وهو يزور أي بلد عربي، بغض النظر عن عدد المسيحيين فيه قياسا إلى المسلمين وبالعكس.
وحدها زيارة البابا إلى فلسطين (المحتلة) تثير مجموعة من التساؤلات والإشكالات، إذ أن »السياسة« هنا تتقاطع مع »الدين«، فلا يكفي الإيمان وحده للتفسير أو للتبرير، كما أن التوقيت سيلقي بظله ثقيلاً على الزيارة فيزيد من طغيان منطق المصالح والأغراض السياسية على بواعث الوجدان والحنين والرغبة الشخصية للبابا يوحنا بولس الثاني بأن يتوّج بابويته بهذا الحج إلى مهد السيد المسيح والمسيحية.
فالبابا لا يزور »أرضا مقدسة« مجردة، ليس فيها غير عبق النبوة وغير آثار أقدام (ودرب آلام) الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهداية الناس سواء السبيل،
إنه يجيء إلى كيانات سياسية، وفي فلسطين بالذات يجيء إلى »كيان« سياسي يرتكز نظريا على ادعاءات دينية معينة، ليس مهماً هنا أن نناقش صحتها أو خطلها، لكنها ستلقي ظلالها على الزيارة فتستولد مجموعة من الالتباسات التي قد تهز اليقين، كما أنها ستتمخض عن نتائج سياسية مهمة ستفيد منها إسرائيل إفادة غير محدودة في »صراعها« مع الفلسطينيين (أهل المسيح المباشرين) خاصة، ومع العرب إجمالاً الذين توزعوا في ما مضى على الأديان السماوية الثلاثة…
لا مجال لأن يعيد التاريخ نفسه الآن وفي فلسطين بالذات: فالبابا ليس السيد المسيح، ويهود هذه الأيام في الأرض المقدسة ليسوا يهود ذلك الزمن، مع أنهم قد بُرِّئوا حديثا من تهمة صلب السيد المسيح برغم أنهم قد رموا جميع أهله أهلها فوق درب آلام بلا نهاية، وعرّضوهم وما زالوا يعرّضونهم لتعذيب أشد إيلاماً من الصلب وأقسى، لا سيما وأنه مفتوح لا تعرف له »قيامة«.
ومع الترحيب بأي زيارة للبابا إلى الأرض العربية، فإننا نتمنى ألا تسهم في محو أو طمس الحدود بين اليهود القدامى والإسرائيليين الجدد، فتسمح لهؤلاء المستقدمين حديثا، من شتى أنحاء المعمورة بالادعاء انهم »ورثة شرعيون« لأولئك الذين طاردوا السيد المسيح واتهموه بالكفر والتجديف وحرّضوا عليه وارتضوا أن يلقى دمه عليهم وعلى أبنائهم من بعدهم.
لقد أخذت إسرائيل في السياسة الكثير من البابا ثمنا لهذه الزيارة، وأخذت لكيانها السياسي الراهن وليس لليهود الذين جاءهم السيد المسيح ذاته فرفضوه،
ومن حقنا أن نتخوف من أن يكون ما أعطته وسوف تعطيه الزيارة لإسرائيل سيحسم من حق العرب، والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص، في أرضهم، وفي مستقبلهم فوقها.
من حقنا أن نتخوّف من أن يعتبر الإسرائيليون زيارة البابا ثأراً متأخرا من السيد المسيح، أكثر منها تأكيدا لانتصار رسالته على الذين أنكروا وما زالوا ينكرون مجيئه حتى اليوم، وتبريرا متقدما له طابع القداسة لما يخططون له في أرض »الناصري« وما حولها، وهو مخيف بكل المعايير لعموم العرب، المسيحيين منهم قبل المسلمين.
من حقنا أن نتخوّف من أن يكون »الصفح« مقدمة لجرائم إسرائيلية جديدة لن تجد في المدى المنظور مَن يحاسبها عليها، كما لم تجد جرائمها المرتكبة خلال الخمسين سنة الماضية مَن يحاسب أو يعاقب أو يحتفظ للآتين بحق الحساب للذين جعلوا للإبادة والتشريد والاقتلاع واغتصاب حقوق الآخرين في أرضهم دولة متفوقة على جميع جيرانها وجميع المراجع… بمن في ذلك البابا الذي يصلها غداً وقد سبقه اعتذاره الذي لا يبدو أن الإسرائيليين قد قبلوه أو بالأحرى قد اكتفوا به فغفروا وصفحوا واعترفوا بمن يمثل الزائر الكبير!

Exit mobile version