طلال سلمان

زيارة اسد لتركيا خطوة شجاعة في لحظة استثنائية

هي خطوة شجاعة يُقدم عليها بشار الأسد، وفي موعدها بالضبط..
فأن يقوم رئيس سوري بزيارة أنقرة كان يعتبر، إلى ما قبل سنوات قليلة »تنازلاً« غير مقبول، وإقراراً بأمر واقع فُرض بالقوة والاعتراف به يكاد يشكل »تفريطاً« بالتراب الوطني..
بالمقابل كانت أنقرة تشترط لاستقبال أي رئيس سوري ما لا يمكن قبوله من »تثبيت قانوني« لذلك الأمر الواقع الذي ما زال السوريون يتجرعون مرارته حتى اليوم..
لكن الحاضر بمخاطره الثقيلة يجبّ الماضي، ثم إن المستقبل هو الأولى بالإنقاذ، ومن البديهي أن تتلاقى الدولتان اللتان ظل تاريخهما مشتركاً، ولو بالتقاطع، على امتداد اثني عشر قرناً، وأن تعملا معاً على محاولة استنقاذ الغد من الضياع في غياهب »جدل بيزنطي« جديد حول الأمس الذي لن يعود.
إنها زيارة من طبيعة استثنائية تتم في لحظة استثنائية.
ليست أنقرة اليوم هي أستانة الأمس العثمانية التي تظلل أعلامها الحمراء بالنجمة والهلال نصف العالم (القديم) أو أكثر قليلاً، ولا دمشق اليوم هي عاصمة الخلافة الأموية التي أسقطت كل إمبراطوريات ذلك العالم القديم بالرسالة ومعها السيف…
كذلك فليست أنقرة اليوم هي »الحارس الحديدي« لبوابة الغرب، تتحمل عنه بصدرها خطر الاجتياح الشيوعي، وتتهاطل عليها المكافآت مساعدات اقتصادية ممتازة تعينها على مواجهة فقرها وتخلفها، وأسلحة ومعدات حربية متطورة تجعلها تستشعر في نفسها قوة استثنائية تغريها بتحدي جيرانها عموماً، والعرب منهم خصوصاً وكأنهم ما زالوا »رعايا السلطان« الذي خلعه جنرالات العلمانية، ومعه »الخلافة« التي كانت فقدت معناها مع مطلع القرن الماضي.
من هنا توصيف زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لتركيا، المقررة يوم غد، بأنها خطوة شجاعة، كانت، حتى الأمس القريب، مغامرة غير مضمونة النتائج، لأن أنقرة كانت »مستكبرة« و»مستقوية« على جيرانها (العرب خصوصاً) بأكثر مما يجوز، ولأن دمشق التي كانت تعيش مع ذكرياتها الوطنية ومع طموحاتها القومية بأكثر مما تسمح إمكاناتها وتوازنات السياسة الدولية الدقيقة في عالم القطبين النوويين المتواجهين بالفكر والسلاح على امتداد الكون.
ها هم العرب والأتراك يتلاقون، مرة أخرى، في قلب الخطر، متخطين ركام العداء التاريخي المترسب، ومتخففين من الأوهام الإمبراطورية: تواضعت تركيا في تصورها لدورها الإقليمي بعدما وضعت له الإدارة الأميركية حدوداً من نار لا يتخطاها، ولم يعد من مجال في هذه اللحظة للأحلام العربية الوحدوية في الذهن، بل صار الحفاظ على الكيانات القطرية بين المطامح العظمى.
إن الخطر حاضنة ممتازة للرفاق في التاريخ الطويل الذيي باعدت بينهم السياسات في زمن مضى بكل ما كانت تفرضه معطيات الصراع المفتوح بين الشرق والغرب…
لم يقبل الغرب بتنسيب تركيا إليه، بعدما تلاشى دورها كحارس حديدي على الحدود التي أسقطها انهيار الاتحاد السوفياتي… ولقد تجرعت أنقرة مرارات ثقيلة وهي تقف على باب الاتحاد الأوروبي، تحاول تلبية الشروط القاسية والتي لا تنتهي لقبولها فيه، ثم كانت الطامة الكبرى حين استغنت عنها واشنطن كقاعدة عسكرية أمامية وهي تبعث بجحافل عسكرها لاحتلال العراق.
بل إن أنقرة كانت قد اندفعت مع سياسة التغريب، التي كانت تتضمن قدراً من العدائية للعرب، إلى حد التحالف العلني (سياسياً وعسكرياً) مع إسرائيل، باعتبارها بوابة واشنطن، واشتركت معها في مناورات عسكرية كانت دمشق بين الأهداف المحتملة لها، إذا ما استجد ما يحول التمارين إلى عمليات..
بالمقابل فإن دمشق ظلت على مسافة من موسكو، حتى وهي تعقد معها معاهدة التحالف الاستراتيجي، فلم تصبح عضواً في حلف وارسو الذي كان يواجه حلف الأطلسي، وتركيا واحدة من قواعده الأقوى… مع أن »الخطر التركي« المحتمل، إضافة الى »الخطر الإسرائيلي« الأكيد والداهم كانا بين أسباب التوقيع السوري على تلك المعاهدة التي لم تعمر طويلاً بسبب »وفاة« صاحب الحلف.
* * *
لم يعد الماضي هو المرجع. صار الحاضر المهدَّد هو الدافع المباشر للتلاقي الذي سبقته تمهيدات بطيئة ولكن مدروسة، كان عليها في لحظات أن تعبر فوق حقول الألغام التي تزنر الحدود الطويلة بين الجارين اللذين ظلا لدودين لستين عاماً او يزيد.
والحاضر يتأرجح بين احتلالين متكاملين في استهدافاتهما: الاحتلال الاسرائيلي القديم لفلسطين ومعها بعض الأرض السورية التي قررت حكومة شارون ان تضاعف عدد المستعمرات والمستعمرين فيها، وبعض الأرض اللبنانية، والاحتلال الاميركي للعراق، وهو مصدر الخطر الاكيد على الحاضر والمستقبل.
إن العراق هو العنوان… والاحتلال الاميركي هو الموضوع.
فليس لهذا الاحتلال »الجديد« حدود، لا في
الجغرافيا ولا في الاقتصاد، لا في السياسة ولا في الثقافة والتربية (ألم تر الى الاقطار العربية كيف تتزاحم بالمناكب على تعديل مناهجها المدرسية، ومعها »إعادة تأهيل« معاهدها الدينية وإعادة النظر في بعض النص المقدس للقرآن الكريم)؟!.
والاحتلال لا يمكن ان يكون »صديقا«. فليس للدولة العظمى (المطلقة) اصدقاء. والحلفاء القدامى قد احيلوا الى التقاعد وتم الاستغناء عن خدماتهم، توفيرا للنفقات. والتقنية الحديثة تغني عن »القواعد العسكرية« ذات التاريخ، خصوصاً ان المتبرعين بأرضهم لتكون منطلقات »للحروب على الارهاب« كثيرون، و»المناقصة« في ما بينهم »شغالة«.
والحكومة التركية الحالية جاءت بها هذه التحولات الهائلة التي شهدها الكون في السنوات الاخيرة، والتي ألزمت الجيش التركي بوصفه صاحب القرار في أنقرة بأن يترك مساحة للاحزاب ذات الشعار الاسلامي (ولو معتدلاً) لكي تؤكد حضورها، آخذا بالاعتبار ان هذا الحضور يعني استعادة بعض ملامح الصورة الاصلية لهذه الدولة التي كانت مركز »الخلافة السلطنة« الاسلامية لاربعمئة وخمسين سنة او يزيد…
***
انه لقاء استثنائي في لحظة استثنائية ولمهمات استثنائية.
فلا يمكن ان يكون الاحتلال الاميركي للعراق مصدر أمان لتركيا، فضلاً عن انه بالتأكيد مصدر للخطر على سوريا.
وإذا كانت سوريا قد استشعرت خطراً مصيرياً على ذاتها مع الاجتياح الأميركي للعراق، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار احتمال التكامل في الأهداف والغايات بينه وبين حليفه الاستراتيجي الثابت ممثلاً بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
… فمن الأكيد ان تركيا اليوم تستشعر نقصاً في الأمان، وتزايداً في المخاطر على كيانها السياسي ذاته نتيجة المطامح غير المحدودة والقدرات غير المحدودة »لجارها!!« الجديد في العراق القديم.. (هل من الضروري التذكير بالحركة السياسية المفتوحة للأكراد الذين يتوهمون الآن انهم شريك للاحتلال الأميركي؟).
ومن دون الذهاب مع اوهام »التحالف للمواجهة« بعيداً، فإن التلاقي السوري التركي، في هذه اللحظة السياسية تحديداً، كان أمراً حتمياً يفرضه الدفاع عن النفس ومحاولة الاستعداد للأسوأ.
ومن الطبيعي الافتراض ان هذا التلاقي يشمل إيران، ضمناً وعملياً… وزيارة وزير الخارجية الايراني لدمشق عشية قمة أنقرة لا تعني غير تنسيق المواقف لتقريبها بحيث تغدو مشتركة… وهي تعني أيضا تعزيز اللقاء بين دول الجوار الأخرى (مصر والسعودية والأردن والكويت)، وبهدف حماية الذات أكثر منه تحرير العراق من الاحتلال الأميركي.
لقد غدت طريق دمشق أنقرة سالكة.
هذا خبر جيد وسط غابة الأخبار الرديئة التي تحفل بها أيامنا العجاف!

Exit mobile version