طلال سلمان

زهرة نار مقدسية

لها الأسماء القدسية جميعا هذه التي انتثرت لتذوب في ثرى فلسطين فلا تغادرها أبدا. هي مريم المجدلية وهي ماريا، هي هاجر، أو هي فاطمة أو زينب أو عائشة. هي جميلة أو سعاد أو لمياء. هي نابلس وطولكرم وهي حيفا ويافا، هي رفح وخان يونس وغزة وهي الخضيرة وقلقيلية. هي الشجرة وسخنين وأم الفحم. هي عكا ورام الله والناصرة وبيت لحم ودروب الجلجلة، هي المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة.
زهرة النار هي. وردة القدس. هي طليعة شقائق النعمان في جبل الكرم.
لها الوجوه الحبيبة جميعا هذه التي أخذت وجهها معها لتبقى فلسطين وحدها الحاضرة، الشهيدة والشاهدة والشهادة.
في أكبر شارع من أعز مدينة، في أقدس أرض وفي قلب النهار، منداة بمطر كانون، التمع وجهها كما البركة، وكالبرق ارتحلت تاركة اسم فلسطين مرشوما بالأحمر على وجدان العالم كله.
ارتطمت زهرة النار بجدار الذل لعله ينهار. صدمت سور العجز لعله يتهاوى أو تفتح فيه ثغرة لأهلها الذين يفتقدون طريقهم إليها أو يخافون حرس الحدود فيهربون.
ضاق الحصار حتى استحال كسره إلا بالدم. من زمان هزم الفلسطيني الخوف وطارده حتى استقر على الجانب الآخر من خط الموت، حيث الطائرات والحوامات والمدافع والقنابل النووية وشارون يحاولون محاصرة الخوف بالقتل فلا يهدأ لهم روع ولا تجيء إليهم السكينة.
ليس الاستشهاد حرفة فلسطينية، لكن الإرهاب صناعة أميركية إسرائيلية متطورة جدا لا يتقنها الفقراء.
ليس الثكل مهنة تتلطى النساء في أفيائها خانعات ينتظرن غياب المزيد من الأزواج والأبناء والأحفاد.
ضجر الفتى الفلسطيني من أن يكون يتيما بينما لكل الأطفال آباء. ضجرت الفتاة الفلسطينية من أن تكون إبنة الشهيد أو أخت الشهيد والمهيأة لتكون والدة الشهيد أو أرملة الشهيد. قطعت ذلك الخط الوهمي الفاصل بين الموتين لتعيد توحيد الحياة الفلسطينية.
ليس الاستشهاد هواية. وزهرة النار أحبت الحياة التي لم تعشها، لأن الأسئلة المجهلة الأجوبة كانت تطاردها باستمرار: لماذا هي واخوتها وأهلها محكومون بالإعدام منذ الولادة. لكأن الفلسطيني لا يولد إلا حين يعلن موته. لماذا لا تستطيع أن تعيش كما سائر الفتيات العربيات التي تتفرج على صورهن ثابتة في المجلات أو متحركة في الفضائيات؟ هي كانت تتمنى، بالتأكيد، لو تيسر لها أن تتمشى في شارع حيفا في قلب هذه التي كانت وستبقى مدينتها، وان تمارس الهواية النسائية المحببة، التسوق. ومؤكد انها حلمت بأن يكون لها بيت وزوج وأسرة وخزانة لملابسها وأساور ذهبية وخواتم من عقيق وعقد من الفيروز… لكن هويتها تحكمها بالاعدام منذ الولادة.
لماذا حكم على الفلسطيني (والفلسطينية) ان يموت (تموت) كل يوم ليتأكد العالم من ان فلسطين لم تمت ولن تموت؟ لماذا على هذا الممنوعة عليه هوية أرضه، وطنه، ان يقدم نفسه قرباناً لاعلان »وجود« الوطن. لماذا هو »إرهابي« طالما هو حي، و»انسان« فقط بعد الوفاة.
لا يموت الفلسطيني من أجل السلطة. ليست القضية السلطة، انه الوطن. لا أحد يقدم نفسه فداء للسلطة. كثير من السلطات تقتات بلحم الوطن. كثير من السلطات تقام بديلاً من الوطن. كثير من السلطات تلغي الوطن لحساب السلطان. كانت السلطة تهمة، الآن هي دليل واحد من ملايين الأدلة على القضية: الشعب والأرض وحق الحياة.
وأي سلطة؟! اضعف سلطة في التاريخ، ومع هذا يجتمع عليها جورج بوش ونائبه تشيني ووزيره رامسفيلد ومستشارته رايس ولسانه كولن باول وأجهزة الأمن القومي والاستخبارات المركزية، ليساعدوا أرييل شارون وحكومة وحدته الوطنية وجيشه الذي لا يقهر… وتجيء لمد يد العون أوروبا بغربها الذي غاب فجأة عن الوعي وشرقها الذي غاب تماماً عن خريطة الدنيا،..
أما العرب فيستنكرون ويدينون الشهداء، وقد يندفع بعضهم إلى تسول وقف الحصار، في حين ينادي بعض آخر بضرورة توسل »الحليف الأكبر«، الذي لا يعترف بهم حلفاء، لعله يتعطف فيتدخل لوقف مسلسل الموت، مع التعهد بأن تُخلع من الفلسطيني روحه الوثابة التي تجعله يرفض الاختناق ساكناً، هادئاً، في احضان الحصار الشاروني حتى الموت.
كما اخوتها، آباؤها، اجدادها، عليها ان تعلن حضورها بالاستشهاد، زهرة النار المقدسية.
»وامعتصماه« نداء قديم انطفأ منذ زمن بعيد. تاه النداء والمنادي. وهي لا تملك وسيلة لجذب اهتمام الملوك والأمراء غير دمها… وها هي تريقه حتى آخر قطرة.
انه ليس استشهاداً. انها شهادة ضد الأهل قبل ان تكون ضد العالم البعيد.
انها »جريمة شرف« من نوع مختلف تماماً، هي الضحية فيها أما الجناة فكثيرون، في الداخل ومن حول الداخل وفي البعيد. ولقد تفجرت لعلها تكشف التواطؤ بين القتلة والأهل الغائبين عن الوعي أو مغيبي أنفسهم حتى لا يُحاسبون!
انكرتها السلطة؟ وماذا في ان تنكرها السلطة. هي لا يعنيها مصير السلطة. هي لم تقتحم الموت افتداء للسلطة. السلطة اداة. السلطة اجهزة ودوائر ووزراء بكروش وضباط بنياشين ورواتب وسيوف لا تشهر. الوطن اكبر بما لا يقاس واعز وامنع واقدس من ان يقزم في السلطة. السلطة نتيجة مساومة ظالمة. اما الوطن فليس موضع مساومة: يستحق ان يسقى حلم تحقيقه بدم الورد في صباحات كانون المنداة بالمطر.
لانها لا ترىد ان توصم الامة بالعار،
لانها ترفض ان ينشأ ابناؤها غداً في إسار ذل الاحتلال وانكار الهوية،
لانها لا تريد ان تجلس في البيت منتظرة عودة الذين يذهبون فلا يعودون،
لانها خبرت الارهاب طويلا، طول عمرها، فلقد نظرته مباشرة في عينيه.
هي منذورة للموت. تعرف ذلك معرفة اليقين: قد يهدم عليها سقف منزلها »فتفطس« تحت الركام. قد »تقنصها« طائرة اميركية الصنع اسرائيلية القاتل. قد تنسفها وهي في السيارة او على الطريق، او عند حاجز عبوة. قد »يتصيدها« مستوطن استقدمته العنصرية والدولارات الى ارض السلام التي »بلا شعب«. لماذا، اذن، الانتظار الممل والمهين للموت المقرر. تقحم الموت حيث يقبع السلاح الديموقراطي والحرب الدولية على الارهاب!
ليس للربيع زمن في فلسطين. الارض تشرب ابناءها كل يوم، وتطرح ورودها والازاهير كل فجر. في الليل يشب الاطفال فاذا هم مع الفجر يصارعون الوحش لعلهم يفتحون كوة للامل (والاهل) في جدار العجز الذي تجاوز حدود التخلي الى الهوان المطلق.
لا وجه لها، زهرة النار، التي اضاءت سماءنا برهة ثم مضت بغير ان تلتفت الى الخلف.
لا وجه لها لانها لا تشبهنا.
لقد مرقت من قلب الموت، كالذين سبقوها، لتعلن حضورها المدوي، المتوالد، المتكرر، المتزاحم، المتراكم، المتعاظم والذي لا يتوقف عن تجميل معنى الحياة.
لا وجه لها الا وجه فلسطين، ولا اسم لها الا الاسم المبارك.

Exit mobile version