طلال سلمان

زمن اميركي سنة اولى

لعل ممّا يخفف على اللبنانيين من وطأة الانسحاق تحت أثقال أزماتهم الداخلية المتلاحقة، المخجلة في تفاصيلها السياسية الكاريكاتورية، المبكية في نتائجها الاقتصادية الكارثية، أن الحرب الأميركية على العالم بدوله جميعاً قد شغلت كلاً بنفسه فلم يعد أحد معنياً بفضائح الحكم متعدد الرؤوس متضارب المصالح في هذا البلد الصغير إلا… ضحاياه، أي »الشعب العنيد«!
لقد ألغى »التقويم الأميركي« الجديد الزمن القديم، فصار يوم 11 أيلول بداية التاريخ الكوني الجديد! وهكذا لم يعد اليوم الأول في السنة الجديدة نقطة انطلاق لمرحلة جديدة بعد »تصفية« حساب السنة المنصرمة… وهذا يلائم الحكم في لبنان تماماً، إذ ان أكثر ما يزعجه هو أن يتوقف أو توقفه التداعيات غير المفرحة لسياساته أمام »المحاسبة« أو حتى أمام »المراجعة« أو وبشكل خاص أمام التدقيق في أرقام الدين وخدمته والعجز ووسائل تعويضه أو النمو ومعدلاته المزورة!
لسنا وحدنا، في لبنان، مَن يطرح السؤال البلا جواب: إلى أين من هنا!
قد يعزينا، بعد إجالة النظر في ما حولنا، أن نتحقق من أن »الحال من بعضه« فعلاً… فكل بلاد العرب، بداية، تائهة لا تعرف كيف تكسب الرضا فتستعيد الأمان: تتنازل عن سيادتها، عن كرامتها الوطنية، عن مواطنيها، عن »قضيتها المركزية« كما كانت تسمى ذات يوم فلسطين… عن أحلام الرخاء والازدهار والتقدم! ومع ذلك فلا هي تحظى »بالعفو« الأميركي من تهمة الإرهاب، ولا يمنحها أرييل شارون شهادة حسن السلوك والبراءة من تهمة التآمر بالعنف على »السلام« الإسرائيلي!
لكن الحقيقة تقضي بالتوكيد على أن الأزمة في لبنان هي في جوهرها »صناعة لبنانية«، وهي سابقة على الحرب الأميركية المفتوحة الآن على العالم والتي لم يصب لبنان منها إلا أقل القليل من الضرر، حتى الساعة، وأن »البطولة« في إنتاجها معقودة اللواء للحكم الذي كلما افترضنا أنه قد تعلم من أخطائه فتوقف عن إيذاء البلاد والعباد فاجأنا بمزيد من »الإنجازات« المفجعة!
* * *
لا معنى، إذن، لرأس السنة، ولا فرصة لمراجعة حسابات العام المنصرم، فالزمن الأميركي الجديد مفتوح حتى تتم إعادة صياغة الكون بما يتناسب مع مصالح القطب الأوحد فيه، لا أحد هو الآن حيث رغب أو كان يرغب أن يكون، يستوي في ذلك الدول، الكبرى منها والمتوسطة والصغيرة، والشعوب والجماعات والأحزاب والتنظيمات وصولاً إلى الأفراد!
لأميركا صورة جديدة تتجاوز أحلام العظمة التي كان يدغدغها بها نموذج »روما القديمة«، مقتربة من موقع »الإله« صانع الأزمنة والمقادير والدول، إذا لزم الأمر، وليس الحكومات فحسب.
ولأوروبا صورة غير تلك التي كانت إلى ما قبل شهور تتخيلها بل وتصطنعها لنفسها عبر الخطوات البطيئة والمدروسة والثابتة لبناء وحدتها، الاقتصادية والسياسية، متخطية ذكريات العداء التاريخي والحروب والمآسي وتصادم المصالح. ومن مفارقات القدر أن أوروبا التي تحتفل اليوم بأنها أنجزت عملتها الموحدة (اليورو) توكيداً على توحيد مصالحها الاقتصادية، تعبيراً عن وحدة قرارها السياسي، تبدو مرتهنة وخاضعة للقرار الأميركي كما لم تكن يوماً وهي مقسّمة ومتنافرة العواطف ومتصادمة المصالح في ما بين دولها المتعددة الولاءات والتوجهات فضلاً عن القوميات واللغات والعقائد و»الأديان« بمعزل عن الانتساب النظري لطوائفها إلى دين واحد بالأصل.
لقد أجبرت الإدارة الأميركية أوروبا الموحدة على تشكيل ما يشبه »الفيلق الأجنبي« في جهدها العسكري لشن الحرب على أفغانستان، وألزمتها بأن تشكل من قواتها المسلحة »قوات حفظ السلام« لحكومة تحالف الأقليات من محترفي القتال بالأجر التي أقامتها بقوة ال»ب 52« في كابول.
أما أوروبا الأخرى، وروسيا على وجه التحديد، فقد تعاظمت عليها واشنطن بحيث انسحبت من المعاهدة المنظمة لسباق التسلح، تاركة لموسكو جائزة ترضية في أن تربح سياسياً في ظل الانتصار العسكري الأميركي في أفغانستان ما خسرته بالمواجهة المسلحة فيها، أيام حكمها الشيوعي السوفياتي.
فأما آسيا فإن الصين فيها التي سايرت غضبة الدم الأميركية مراهنة على تحقيق جملة من المكاسب الداخلية (مشكلاتها مع المسلمين فيها والتيبت) فضلاً عن قبولها في منظمة التجارة العالمية، فيبدو الآن أنها تعاني من خيبة أمل لأن واشنطن لا تريد لها في حصاد »النصر« شركاء ولو بنسب متواضعة.
عند حدود الصين، جغرافياً وسياسياً، تتعالى ألسنة اللهب الآن منذرة بحرب ساحقة بين الهند وباكستان يصعب الحكم ببراءة الإدارة الأميركية من تهمة التحريض عليها، وإن كان يسهل استكشاف مفردات جورج و. بوش، فضلاً عن مفردات أرييل شارون في الخطاب الحربي لحكومة الهند المتطرفة في مساحة يختلط فيها التعصب الوطني بالتعصب الديني بإرث العداء المتأصل منذ »فصل« باكستان عن وطنها الأصلي القارة تحت الشعار الديني.
فأما أفريقيا فقد سقطت من ذاكرة العالم، وسلمت قياداتها ومعها المستعمر الأوروبي القديم بتركها لمصيرها مع السيد الأميركي الجديد: وهكذا فمسلسل الحروب الأهلية في دولها الهشة المصطنعة حدودها و»قومياتها« على أساس قبلي، يكاد يغطي خريطتها بالدم، في العديد من أنحائها، لكن مئات الألوف من الضحايا الذين تلتهمهم الصراعات أو الأمراض يموتون خارج ذاكرة الدنيا وزمانها الأميركي الآتي إليها ليرث الأرض وما في باطنها بغير حساب لمن عليها!
* * *
أهم معالم الزمن الأميركي الجديد، بالنسبة إلى العرب، أنه يحمل في طياته إنذاراً بإنهاء طور كامل من أطوار الصراع العربي الإسرائيلي، فيبدل في المعطيات الأصلية وفي احتمالات الحلول بحيث تختفي »القضية السياسية« للشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه، بما فيها حقه في إقامة دولته (ولو صغيرة وضعيفة فوقها) لتحل محلها مسألة هذه المجاميع من الفلسطينيين بوصفهم مشكلة أمنية لإسرائيل، حلها بالضرورة إسرائيلي أولاً وأمني ثانياً وأخيراً.
تمّ شطب طبيعة الصراع، فأُخرج العرب منه، بعضهم بالرغبة وبعضهم الآخر بالأمر، ومن أصر على استمرار علاقته بالقضية تمّ عزله وإبعاده عنها، فصار في موقع »المزايد« المطالَب بأن يدرأ عن نفسه كل يوم تهمة رعاية المنظمات الإرهابية وبالتالي الوقوف في وجه الحرب الأميركية (الدولية) على الإرهاب!
وبالخوف من شبهة مناصرة الإرهاب أو تشجيعه فقد تم وقف الانتفاضة بالأمر، وأغفل وزراء الخارجية العرب ذكرها، وأنقذوا اجتماعهم الذي وُلد بعملية قيصرية بالتوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية برجاء أن توفد الجنرال زيني مجدداً لعله يقنع شارون بوقف التدمير المنهجي لأنحاء الضفة والقطاع وحصار التجويع لأكثر من مليونين من النساء والأطفال والرجال الذين يفتقدون الخبز فضلاً عن الأمان وعن حق الحلم بمستقبل ما خارج حصار المهانة المفتوحة على الموت على مدار الساعة.
إن العرب يسرِّعون الآن خروجهم من فلسطين تاركين مصيرها لأرييل شارون، خوفاً من اتهامهم بتشجيع الإرهاب الأفغاني وتورطهم مع حكومة طالبان التي كانت تعتبرهم بمجملهم من الكفرة أو من أهل الردة الذين يتوجب إقامة الحد عليهم!
لكأنما وفرت لهم »الحرب الأميركية على الإرهاب« الذريعة للخروج من فلسطين والتبرؤ من نضال شعبها الذي قدم ويقدم بأجداث أطفاله والمواكب اليومية لشهدائه الدليل الذي لا يدحض على أنه الضحية النموذجية لإرهاب الدولة في إسرائيل!
إنه زمان جديد، وليس مجرد عام جديد، والمراجعة إن تيسرت يجب أن تكون شاملة وجذرية ومتحررة من أسار الخوف من الجبار الإسرائيلي المتحالف بالأسنان والطيران مع »القدر« الأميركي الذي لا يرد.
إنه زمان جديد يحتاج التعامل معه إلى الإرادة وإلى الاستعداد للأصعب، بينما حكامنا يفضلون الأسهل، و»جماهيرنا« قد استكانت أو تكاد خوفاً من نكسات أو نكبات جديدة.
والتغيير يظل فعل إرادة، فعسانا نملكها… وكل عام وأنتم بخير!

Exit mobile version