طلال سلمان

روساء اقوياء وطن على طوائف

ليس رئيس الجمهورية عموما، وإميل لحود على وجه التحديد هو الممثل الشرعي والوحيد للمسيحيين، ويجب ألا يكون.
إنه رئيس كل اللبنانيين، وهو مسيحي ماروني لأسباب وطنية تتصل بتأصيل الوحدة بين اللبنانيين وتعميقها، ولتأمين مناخ صحي، ودائما بأفق وطني وقومي، لمواجهة مسألة الأقليات وتوكيد وحدة الأمة بمختلف عناصرها، بغير تمييز.
وليس رئيس المجلس النيابي، وسواء أكان نبيه بري أم غيره، الممثل الشرعي والوحيد للشيعة في لبنان، ولا يجوز أن يكون.
إنه رئيس السلطة التشريعية، حصن الديموقراطية، وملاذ المطالب الشعبية (من حيث المبدأ)، و»شيعيته« ليست بذاتها مصدر كفاءته أو أساس استحقاقه لهذا الموقع السياسي الخطير.
وليس رئيس الحكومة، وهو الآن رفيق الحريري، الممثل الشرعي والوحيد للسنة في لبنان، ولا يجوز أن يكون.
إنه رئيس حكومة لبنان كله، ونجاحه في القيام بموجبات دوره لا سيما في فترة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، هو المعيار، وقوته في وضوح رؤيته وفي توفير عناصر النجاح للمشروع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الذي تحتاجه البلاد، في هذه المرحلة الدقيقة.
وإذا ظل الرؤساء الثلاثة ممثلين شرعيين ووحيدين لطوائفهم فلن تكون دولة ولن تكون لها مؤسسات، ولن يكون ثمة قانون أو من يخضع لقانون!
سيكون أي اتفاق بينهم تواطؤاً ومحاصصة، وأي خلاف بينهم فتنة!
وفي الحالين ستكون النتيجة القضاء على الحياة السياسية، ومن ثم على النظام الديموقراطي البرلماني، واستطرادا على المؤسسات جميعا وعلى »حكم القانون« بل وعلى القانون نفسه.
ولعل أهم الأسباب التي جعلت اللبنانيين (ومعهم القيادة السورية) يميلون الى اختيار إميل لحود رئيسا، أن وطنيته هي التي صنعت وتصنع قناعاته وتملي عليه مواقفه السياسية، وليس انتماؤه الطائفي.
فالوطنية تسمو على الطوائف وتحاصر ثم تهذب الحساسيات الطائفية وتعالجها بهدوء حتى يشفى منها المصابون بها بالاطمئنان إلى مصيرهم كما إلى دورهم في حياة بلادهم.
وليس شرط الوطنية التبرؤ من الدين، فالوطني قد يكون مسلماً وقد يكون مسيحياً، وقد يكون شديد الالتزام بالطقوس أو متخففاً منها، ولكن موقفه الوطني هو المنطلق والأساس في عمله السياسي، خصوصا وهو يندب نفسه للعمل العام، ويرتفع (بالانتخاب) الى سدة السلطة.
كذلك فليس الحكم في لبنان، ويجب ألا يكون، ائتلافا أو تحالفا غير مقدس بين من يدّعون احتكار التمثيل الشرعي والوحيد للطوائف، على اختلافها.
ان ادعاء الوكالة الحصرية أو الاحتكار للتمثيل الطائفي أو المذهبي هو أحد أهم الأسباب التي أوصلت إلى الحرب الأهلية: انتفت السياسة، وضاعت الحدود بين ما هو وطني وما هو معاد للوطن، بما في ذلك، مثلاً، الاحتلال والمقاومة وصار أي خلاف في السياسة أو حول الموضوعات السياسية الاقتصادية الاجتماعية انشقاقا وإشعالاً لنار الاقتتال الطائفي.
وجاءت بدعة »الترويكا«، في جمهورية الطائف، ردة أو ارتدادا، إذ بدل أن يُباشر بإلغاء الطائفية السياسية، تمّ التوكيد على حصر التمثيل الطائفي فوق قمة السلطة.
والثنائية داخل »الترويكا« أشبه بحكم إعدام على كل ما هو وطني.
إنها أشبه بعبوة ناسفة لركائز الوحدة الوطنية ولأولويات النظام.
إنها اغتيال علني للحياة السياسية ونفخ في جمر الانقسام المذهبي، بعد الطائفي، وكلاهما يلغي ويسقط الادعاءات الديموقراطية.
فالمذهبية، من حيث المبدأ، أشد فتكا وأسرع التهابا وأعظم قدرة على التدمير من الطائفية، خصوصا وهي تستند على »تراث« دموي موغل في القدم، ولكنه قابل للاستحضار، فحساسيته لم تنقص أبدا بل ولم تكف عن التوالد وتسميم الضحايا على الجانبين جيلاً بعد جيل.
لقد اعتبر اللبنانيون انتخاب إميل لحود نقطة تحول من »توازن الرعب الطائفي« الى توازن السلامة الوطنية.
رأوا أن الرئيس القوي بوطنيته سيعزز في الحكم مناخا صحيا لا مجال فيه ومعه لانتعاش بل استشراء الغرائز الطائفية والحساسيات المذهبية.
ورأوا انه، بوطنيته، سيكون قوياً بين المسيحيين كما بين المسلمين، بمختلف طوائفهم، والأهم: قويا عليهم جميعا ليس فقط لأنه لا يطلب لنفسه شيئا بل لأنه لا »يمثل« أو يدعي تمثيل أو يحصر في نفسه تمثيل طائفة بالذات.
وإنه، بهذا المعنى، سيكون »المثل والمثال« للآخرين.
وكان اللبنانيون يلاحظون، بشيء من القلق، المحاولات الخبيثة التي هدفت الى تقديمه إلى المسلمين كمسيحي قوي عليهم، والى المسيحيين كمعيد للمجد الماروني الضائع الذي ذهبت به مغامرات القيادات السابقة القاصرة التي لم تعرف تماما كيف تتواطأ على »الطوائف الأخرى« مع السوري، ولا هي نجحت في التحالف الفعلي على حساب الوطن وأهله جميعا، مع الإسرائيلي؟!
… وهذه المحاولات نفسها تجري مع »ممثلي المسلمين« في السلطة، وتحرضهم على »محاصرة« إميل لحود، والحفاظ على »الانجازات« التي تحققت في السنوات القليلة الماضية فحولتهم »من أجراء الى شركاء«.
ولبعض هؤلاء شعار خبيث محدد: مع رئيس مسيحي قوي لا بد من رئيسين مسلمين قويين… وهي دعوة الى إعادة »توازن الرعب الطائفي« ذاته!
والمؤكد ان اللبنانيين لا يريدون إحياء »الترويكا« بثلاثة ممثلين أقوياء للطوائف الثلاث الكبرى… بل يريدون حكما وطنيا قويا بالوطنيين والديموقراطيين على الطائفيين!
ومؤكد أيضا انهم لا يريدون، بأي حال، ثنائية بين كل زوجين منهم!
فالثنائية مثل »الترويكا«، بل هي أشد فتكا وإيذاء، إذ تُبقي السلم الأهلي في مهب رياح الفتنة، وتعطل قيام الدولة، وتغتال المؤسسات، وتلغي حكم القانون.
واللبنانيون يريدون رفيق الحريري بشعبيته المخترقة للطوائف والمذاهب، التي ليس بين معاييرها ان يكون الأقوى من بين السنة، بل أن يكون الأقرب الى صورة رجل الدولة والأقدر على تنفيذ برنامج التغيير المطلوب.
إن اللبنانيين يريدون رؤساء أقوياء بهم مجتمعين، لا ثلاثة يحاول أو يسعى واحدهم إلى الاستقواء على الآخرين لتقسيم اللبنانيين طوائف ومذاهب لكل منها »قوي« يواجه شريكيه اللدودين!
والحكومة الجديدة، بدءا »بشروط التكليف« وانتهاء بمواصفات التشكيل هي أول امتحان جدي لقدرات الرؤساء كرجال دولة ولالتزامهم الوطني وليس لقوة تمثيل كل منهم لطائفته.
بل ان مجرد الحديث عن قوة التمثيل الطائفي للرؤساء يهدد بإجهاض مشروع الدولة العتيد بدل أن يكون التوافق وضمن مناخ وطني على حكومة العهد الأولى هو الاعلان »الرسمي« عن الدخول فيه ومباشرة إصلاح السلطة بدءاً برأسها.
وليس الأمر الآن المفاضلة بين إميل لحود ورفيق الحريري، ويجب ألا يكون، لأن في ذلك خسارة للرجلين خصوصا، وخسارة للعهد الجديد عموما.
فالبلاد تحتاج إلى الجميع، شرط أن يكون كل في موقعه الصحيح، وتحت القانون دائماً، وضمن الصلاحيات الدستورية لا خارجها..

Exit mobile version