طلال سلمان

رواية حسان الزين »الرفيق علي«(*) وثيقة انتماء إلى صور

لولا صور لما كانت هذه الرواية التي تكاد هذه المدينة العريقة، الرحب قلبها، الكريمة يدها، أن تكون بطلها المطلق.
ولولا صور لما كان هذا اللقاء الذي عرف الرفيق حسان كيف يستدرجني إليه مستغلا شغفي بهذه المدينة التي أسهمت في تشكيل الوجدان الوطني والقومي لجيلي وهي تنتفض في وجه الإقطاع السياسي، وتندفع الى مقدمة المناضلين تحت راية العروبة وقيادتها ممثلة بجمال عبد الناصر في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر، ثم في تزخيم تيار الوحدة بعد إقامة دولتها في 22 شباط 1958، تحقيقا لحلم لا يموت مهما تقادم به الزمان.
فصور هي الفاتحة لكتاب مقاومة المحتل والاحتلال عبر التاريخ، ثم انها شكلت في زماننا واحدة من ساحات النضال بالمواجهة المباشرة التي اغتسلت بالدم مع الاقطاع السياسي الذي شكل لفترة ما يشبه الطابور الخامس في خدمة سياسة الالتحاق بأحلاف المستعمر القديم، شريك الاحتلال الاسرائيلي ورديفه عبر مشاريع الهيمنة التي كانت مقدمة التوغل الاميركي كوريث للاستعمار القديم في منطقتنا.
صور كانت واحدة من ساحات المعركتين: القومية الوحدوية والوطنية الاجتماعية، وفيها ومنها برز عدد من قادة حركة التقدم والتحرر والكثير الكثير من المناضلين.
وفي روايته الضئيلة الحجم هذه يحاول حسان الزين، الذي أسعدتنا زمالته المتقطعة في »السفير« ولعلها أسعدته أيضا، أن يقدم لمحات من المواجهات التي خاضها أبناء صور جنبا الى جنب مع الذين نزلوا اليها من قراهم فاحتضنتهم، وهي مواجهات يختلط فيها الوطني بالقومي والسياسي بالاجتماعي، كما هي الحال في كل معارك التغيير في كل مكان او زمان.
ولقد شغلتنا صور النضال السياسي عن صور الطبيعة الخلابة، التي لم تستطع كل عمليات النهب والنهش والشفط التي التهمت فيها الشاطئ ورماله ان تشوه فرادتها في جمال موقعها وفي هذا الانبساط المريح للعين والنفس، والذي يزيد من بهائه شميم الجهاد في فلسطين الذي عطّر هواءها، ومعه أيضا عبق التاريخ الذي يربطها عبر مصر بأقصى الوطن العربي في مغرب المرابطين، بينما سوريا هي الضمانة وقلعة الحماية وحصن الانتماء العربي الحصين.
وها هو الزميل حسان الزين يمارس خطة الاستدراج ذاته في روايته التي نجتمع اليوم من حولها، فيتخذ من »الرفيق علي« وأهله المتحدرين من قرى الجوار، مجرد حيلة للحديث عن صور بلغة يأخذها الحب الى ما يشبه الشعر.
صور هي البطل. هي الراوية والرواية، وحسان الزين مجرد »ناقل« يدلي بشهادته التي لا بد منها لكي يكتمل النصاب ويتسق السياق:
»أين البحر؟ كنت تراه أينما وقفت في صور من الجهات الثلاث. اليوم لا تراه بيوت صور. لا تراه إلا الأبنية الشاهقة التي ملأت المكان وأتوقع لها يوميا ان تسقط على سكانها«.
»حدث ذلك مرة منذ تلك الكارثة التي أقفل ملفها ومسحت بلحية مرتكبيها..«.
والرواية التي تتخذ لها زمانا فترة الاجتياح الاسرائيلي، بكل الانهيارات الوطنية والقومية التي وفرت للعدو فرصة انتصاره، إنما تقدم من خلال الواقع السياسي الاجتماعي للمدينة والناس المجتمعين فيها، شروحا وافية لتبرير السقوط الذي وفر للبعض فرصة ممتازة للتجارة بالمناقصة، في فترة الاجتياح، ثم وفر لبعض آخر فرصة اضافية للتجارة بالمزايدة في عصر المقاومة فالتحرير.
وفي الحالين كانت المدينة هي الضحية:
»نسوا الشاطئ الذي سيجته الامارات، والذي سفك دماءه المقاولون، وأخفوا الدماء بطرقات مشغولة بالتراضي«.
على أن »الرفيق علي« الذي هبط من قريته الفقيرة ليعيش من عرق جبينه في المدينة الفاتحة قلبها لكل ريفها »لم يشارك في هذا الخراب ولم يشفط رملا ليبيعه ولا آثارا ليبني فيها قصورا«.
بل إن »الرفيق علي« لا يتعب من رفع صوته مؤكدا: »لست منهم! لست منهم!«.
اختزال مرحلة
ومن قبل، كان والد »الرفيق علي« قد قال لأبنائه: اتركوا هذه الخربة، وسبقهم جميعا الى صور فاستقر فيها مطمئنا الى أن هذه المدينة لن تقذفه منها عشوائيا ولن تطلقه من عائلته، بل هي سوف تعتقه من الاضطهاد الذي تلقاه عائلته في القرية من العائلة الخصم..
الرواية الضئيلة الحجم تحاول أن تختزل مرحلة تحتشد فيها الأحداث وتتوالى تداعياتها السياسية والاقتصادية فتخلخل أسس دول وأنظمة ومنظمات، فكيف بالحياة اليومية لأسرة متوسطة في مدينة كانت التجارة تشكل عماد الرزق فيها.
ثم إن الرواية تحاول أن تعطي صورة للاحتلال وممارسات جنوده الذين اقتحموا البلاد مطمئنين الى حد كبير، في ظل الانهيارات التي سبقت الاجتياح فدمرت شبكة علاقات التحالف بين القوى الوطنية والتقدمية وقادتهم الى مواجهة بعضهم البعض بالسلاح في حالات كثيرة، فأنهكتهم وأعجزتهم عن المقاومة عندما جاء أوانها.
أترى لهذا كان »البطل« الذي له ملامح كاريكاتيرية في الرواية، يختار الأماكن المعتمة والأوقات المعتمة ويجلس، يسلم نفسه الى وحدة غامضة ويكلم نفسه أحيانا.
ما السابق على الآخر »الاجتياح من الخارج أم الانهيار في الداخل؟ ثم ما السابق على الآخر: التجارة أم السياسة؟!«.
وماذا يحدث إذا اختلطت نتائج الاجتياح الاسرائيلي بنتائج الانهيار الوطني؟ وإذا ما اختلطت السياسة بالتجارة؟! ومن أين يكون لك دخل وتكون لك حياة إذا احتكرت أحزاب الأكثرية السياسة مع التجارة، فتاجروا بالسياسة وحققوا أرباحا في السوق وفي الحكم معا؟!
عيّنة وطن
لا يغفل حسان الزين ملمحا من ملامح الواقع الذي عاشه أهل صور، بوصفهم عيّنة لأهل الوطن، إلا ويقرر فيه وله ويدرجه في سياق تحليله الذي يكاد يشكل رثاء او ادانة او تأريخا لمرحلة كاملة:
»لم يبذل هو ولا رفاقه في الحزب جهدا في تثقيف زوجاتهم. الحزبيون الذين تزوجوا نساء أميات او نصف أميات لم يحاولوا تعليم زوجاتهم الكتابة والقراءة«.
أما أولئك المتاجرون بالدين فلهم حصتهم أيضا، تصرخ المرآة المؤمنة:
»يكوون وجوههم بفصوص الثوم ليقولوا إنها حروق من الصلاة ويقولون عن الشيوعيين إنهم بلا دين. الحمد لله نحن مؤمنون بلا حج. ومات أبي ولم يحج ولم يأكل حق أحد«.
وحسان الزين منحاز، بطبيعة الحال، الى ذلك الذي اجتهد وحاول ولكن محاولته لم تنجح تماما:
»وتلك الثقة توأم الوسواس المراوغ، أكثر مما هي باب الى السماء. ثقة من النوع الذي يخدع بأنها هي رأس المال الاول والوحيد. وتدعوه الى عيشها وممارستها والإفادة منها وتعد بالكثير«.
»… وفتح علي يده المقبوضة والمتعرقة. رأى كفه بيضاء كالثلج كما لو أنه لم يفعل شيئا ولم يمسك قرشا معدنيا او ورقيا في حياته«.
»يتخم حياته بالوعود… الوعود التي تنتحل صفة التفاؤل. الوعود التي تستبدل الزمن بعامل الوقت، فلم يمر عليه يوم يملك فيه مالا اضافيا، مالا محميا، مالا خارج الحاجة؟«.
صفحات الرواية أقل من ان تتسع لصور، بطبيعة الحال، وأقل ايضا من ان تتسع لعاطفة حسان الزين.
لكنه لا يُغفل وهو يكتب قصيدته التي توهمك بأنها أقرب الى الرثاء ثم تكتشف أنها محاولة لمد البصر الى أمام، ان يذكّر بكل رموز صور، المدينة التي لا تقتلها النكسات، والتي تنصر دائما من يأتيها هاربا من ظلم الفقر الذي تكمن فيه السياسة، والذي يهندسه النظام فيزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى ويفتح للانتهازيين والدجالين الطريق الى الثراء والوجاهة وعز الحكم.
لا ينسى حسان الزين الجعفرية ومُنشئها السيد جعفر شرف الدين الذي بات جزءا من ذاكرة أهل صور ومنطقتها، بل من لغتهم اليومية ايضا… ولا ينسى كذلك السيد موسى الصدر، حتى وإن جاءت الإشارة اليه عابرة، ولا سيما ان أحداث الرواية وقعت بعد تغييبه.
لقد حاول حسان الزين أن يقدم وثيقة انتماء الى صور، سياسيا وثقافيا واجتماعيا.
ولعل هذا الحفل يشابه فعل »التثبيت« عند الأخوة المسيحيين.
وبالتأكيد، فليست »الرفيق علي« أجمل رواية كُتبت او ستُكتب عن صور، ولكنها قصيدة من عاشق مجتهد لمدينة وقف الدهر في بابها مُنشدا.
أليس لكل مجتهد نصيب…
ونصيب حسان الزين من صور أن أتاح لي فرصة الوقوف ببابها مرة اخرى. فشكرا له وشكرا لكم وشكرا لهذه المدينة التي كلما عبّرت لها عن حبك أغوتك واستدرجتك لأن تحبها اكثر.
(*) أُلقيت أمس في ندوة حول رواية حسان الزين »الرفيق علي« الصادرة عن »دار الساقي« في »مركز باسل الأسد الثقافي في صور«

Exit mobile version