طلال سلمان

رفيق شرف حصان ذي سكن نار

حين دخل علينا رفيق شرف في زيارته الأخيرة، كان أشبه بفارس أرجأ موته باستعداده الفطري لمواجهة القسوة والمرض الفتاك بريشته الصلبة كما إرادته، والمرهفة كما أحزانه الموروثة ورحابته كما السهل الذي أنبته فأسكنه عينيه.
قال بنبرة التحدي التي لازمته حتى وهو يغازل أنثاه: أعرف أن الموت يسكنني، ربما لهذا أنا الآن أقوى، وسأنجز لوحاتي الأخيرة قبل العودة إلى بعلبك. لقد طال زمن الافتراق واشتقت إلى أرضي تحضنني فتبث فيّ الدفء حتى والثلج يغطيها ويزرع فيها الخير.
كنا نعرف جميعاً أن الحصان على أهبة أن يطلق صهيله الأخير.
كان وجهه صارماً بملامحه القاسية التي يرتديها حين يخرج إلى الناس، لكن قلبه الطفولي كان يطل من عينيه لتتكامل المعادلة البعلبكية الفريدة: »ريح الشمالي« زمهرير شتاءً، هجير صيفاً، والأرض مشوقة إلى الماء والمشمش يتهاوى مخلياً المساحة لبيوت الفقراء الذين انحدروا من جبال الشقاء إلى السهل الذي كان منبتاً للخير فقتله الإهمال الرسمي مع سبق الإصرار والتعمّد.
لم يعد الفلاح سلطاناً. صار بواب عمارة فخمة في المدينة التي ليست له، أو عاملاً في محطة محروقات. باع أرضه أو رهنها ليعلّم أبناءه والبنات، ثم رأى نفسه مجبراً على وداعهم وهم يتركونه ويرحلون إلى البعيد، ثم أقفل بيته الذي فرغت فيه »كوارات« القمح والبرغل والحمص والعدس وخوابي الدبس و»القورمة«، كما تهدمت جدران الزريبة التي كان بعضها للبقر وبعضها الآخر للغنم، أما القبو في الخلف فللتبن والعلف… وعند الباب تماماً حملان الضيوف.
مع الصهيل الأخير رحل ابن الحداد البعلبكي الذي جاء إلى المدينة والنار في عينيه، أما كفاه فطالما عالجتا الحديد بارداً أو مذاباً. من أين له كل هذه الرقة يطلقها عصافير جنة هذا الذي سكن النار طويلاً وسكنته إلى الأبد؟!
اخترقت عصافير رفيق شرف الأسلاك الشائكة عائدة عبر الرماد والضباب إلى ملاذها في قلب الشمس وعليها بعض ذلك التراب المقدس الذي أعطاها الحركة العفية واللون المبهج وعشق الحياة.
لكم تشهى الحصان أن يطير!
باللون أيضاً تقول الشعر. باللون تكرز فعل إيمانك بالأرض. الأرض منبع الشعر والفكرة واللون. الأرض بلون الفلاحين. الفلاحون بوجه الأرض. الحصان قصيدة، والفارس المغني.
جاب الحصان الأرض، حمله صهيله إلى البلاد البعيدة. تعلم كثيراً، كان يشرب ما يرى ويسمع، سأل كثيراً، تأمل طويلاً. كانت

الشمس دائماً هي المحور، أليست ولادة الحياة وألوان الجمال والشعر؟
رفيق شرف في طريق العودة الآن إلى سهله ينطلق فيه ولا لجام، ويطير ملتحقاً بصهيله فيعلو فوق القلعة التي صارت حدوداً للمدينة، ليست منها وليست لها، بل للعابرين ولابسات الفرو الآتيات ليلاً للفرجة على الفنون المستعارة تتخذ منها مسرحاً لساعات ثم ترحل فلا يبقى منها أثر أو نغم أو قروش تبني فندقاً أو مطعماً أو بيوتاً للفقراء المنسيين… الحجر المعتق هو الأهم كما الحجر المستحدث لمحو آثار الحرب التي كانت في الخارج فصارت في الداخل.
عاد الحصان إلى مداه المفتوح،
وها هي عصافيره ترف من حول موكبه الأخير.
بعلبك اليوم تفتقد الصهيل، ولبنان خسر بعض اللون.
وداعاً رفيق شرف أيها العائد إلى أرضه التي ستعرّف به، ولو لمرة، وقد كان يعرّف بها دائماً.

Exit mobile version