طلال سلمان

رفيق حريري قضية

لم يحلم ذلك العقل الإجرامي الذي خطط ودبر ثم نفذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بأن يحقق، بضربة واحدة، ما يتجاوز أغراضه الخبيثة التي قصد تحقيقها في لبنان، وفي محيطه العربي، مشرقاً ومغرباً.
لعله فوجئ بأن حجم الحريري أكبر مما قدّر بكثير، سواء في بلده أم بين أهله العرب.
ولعلنا بدورنا قد فوجئنا إلى أي حد كان رفيق الحريري، وهو الابن الشرعي لاتفاق الطائف، بين ضمانات تنفيذ هذا الاتفاق من خلال إيمانه العميق بالوحدة الوطنية وسعيه لترسيخ أسسها عبر إعادة بناء »الدولة العادلة« بعاصمة متألقة تنهض من قلب الدمار درة في معمارها المتناسب مع دورها المطموح إليه.
إن نظرة متأنية إلى ما يُراد للبنان أن يكونه، وإلى ما يدبر لسوريا في لبنان وعبره وتحت عنوانه، تكشف حجم الانهيارات الخطيرة التي صدعت العمل الوطني وأساءت إلى العروبة، وتكاد تجعل التدخل الدولي مطلباً، وتُظهر فرنسا أقرب إلينا من سوريا، وتعطي الإدارة الأميركية حق اختيار الحكام، رؤساء ووزراء وكذلك ممثلي الإرادة الشعبية عبر »انتخابات« تتميز بديموقراطية تشهد بكمالها عيون العالم.
كذلك فإن نظرة متأنية إلى ما شهدته وتشهده الحركة السياسية من تحولات، غابت معها شعارات كانت عزيزة على قلوب اللبنانيين، وارتفعت معها في قلب بيروت هتافات ونداءات هجينة وغريبة عن طبيعتها وهويتها ولسانها، تؤشر إلى حجم الضياع الذي يتهدد وحدة البلاد وشعبها.
لقد احتل بعض الخارج الأجنبي موقع »الوصي« على لبنان، المسؤول عن حمايته من عروبته.
كذلك فقد اختطفت بعض القوى السياسية، التي نادراً ما تلاقت مع رفيق الحريري، وكثيراً ما اختلفت معه إلى حد القطيعة، جثمان الرئيس الشهيد وجعلت نفسها »أهل الفقيد«، فدخلت الدار التي لم تدخلها في حياته، ووقفت بين أسرته التي لا تعرفها ولا تعرفهم تتباكى وتتقبل العزاء في من كانت ترى فيه الحاجز دون نجاح انقلابها على الطائف ومانع استيلائها على السلطة مستعيدة مجد أيام العز التي جاءت بالكارثة.
وبدلا من أن تبقى جريمة اغتيال رفيق الحريري، الذي نشأ قومياً عربياً وعاش قومياً عربياً، واستشهد قومياً عربياً، قضية وطنية من الدرجة الأولى وقضية عربية من الدرجة الأولى، حاول بعض تجار الشعارات أن يحولوها إلى تبرير إضافي لطلب الحماية الأجنبية، وإلى سبب للانقسام الداخلي، بل إلى منطلق لمجموعة من الفتن الطائفية والمذهبية، تكمل ما يسعى إليه الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وما يعمل له الاحتلال الأميركي في العراق، بحيث يكون الانسحاق شاملاً.
تناسى هؤلاء أو حاولوا تجاوز بعض الحقائق البسيطة ومنها:
إن كل اللبنانيين هم أهل الشهيد.. فهو بجهده كما بفكره، بحركته كما بعلاقاته، بما قدمه للناس مباشرة أو عبر تحمّله المسؤولية، كان للجميع، متجاوزاً الخصومات والحساسيات، بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي الآن وقد استقر في الضمير وفي الوجدان احتكاره أو الاستئثار به أو الإتجار بذكراه.
بل إن العرب جميعاً، السوريين والمصريين، السعوديين والخليجيين، المغاربة واليمنيين، العراقيين في قلب مأساتهم، والفلسطينيين المحاصرين بجدار الفصل العنصري والتخلي العربي، هم هم أهل الشهيد وذووه الأقربون.
ومع التقدير لعواطف الأصدقاء الأوروبيين، وللمعارف في العالم، وهم أكثر من أن تحصيهم الذاكرة، فإن من اكتوى بنار الجريمة هم الأهل الأقربون.
إن اغتيال رفيق الحريري جريمة تستهدف العرب والعروبة في لبنان وفي محيطه.
فكل عربي يستشعر اليوم الخسارة ويحزنه الفقد بقدر ما يتجرع اللبنانيون حسرة عجزهم عن حماية »باني لبنان الحديث« كما كان يطمح رفيق الحريري الى أن يكون.
إن بعض تجار السياسة يتباكون على رفيق الحريري بينما هم يحرّضون بعض اللبنانيين ضد بعضهم الآخر، ويحاولون وضع اليد على بيروت بذريعة »حماية أهلها« من… أهلهم!
إن بين الشعارات التي رفعت في قلب بيروت، وبين الهتافات التي ضجت بها سماء بيروت، وبين الأعلام التي اخترقت قلب بيروت، ما لا يقبله أي وطني في لبنان.. ورفيق الحريري في طليعة هؤلاء الرافضين!
ثم ان هذه الحرب العنصرية القذرة التي اطلقت ضد السوريين، كل السوريين العاملين في لبنان، سواء في مجالات الانتاج أو في مجالات الخدمة، أو القادمين إلى بيروت عاصمتهم ومرتع صباهم وقصيدتهم ومصرفهم ومتجرهم ومنتداهم وصحيفتهم وملتقاهم مع ذوي قرباهم ورفاق العمر لا يمكن ان تصدر عن وطنية، وعن حب عظيم للبنان وعن حرص شديد على حاضره ومستقبله.
انها طعنة تصيب لبنان، وبيروت قلبه، في الصميم.
فدمشق التي أحبها رفيق الحريري وأحبته، واغتنى فيها بصداقة غالية مع رجال كبار واعتزوا بصداقته،
دمشق التي بكت الحريري وافتقدته بقدر بيروت،
… ومع دمشق حلب وحمص وحماه ودير الزور والقامشلي واللاذقية وبانياس والسويداء ودرعا، وقد بكاه وافتقده أهلها أهله جميعاً، تماماً كما بكاه وافتقده أهله في صيدا وصور وجونية وطرابلس والنبطية وجبيل وعمشيت والعاقورة واليمونة وبعلبك والمنية والقبيات والهرمل وعاليه وسوق الغرب وزغرتا وبشري وغزير وبنت جبيل والخيام ومرجعيون وإبل السقي وبعقلين وجزين وميس الجبل وقرنايل وبرجا وشحيم وجب جنين وصغبين وزحلة والعين وراس بعلبك وسائر البلدات والقرى والدساكر في أربع جهات لبنان…
من هذا الحريص على لبنان الذي يقطع له شرايين حياته؟
ان من تسبب في مثل هذا الجو المثقل بالعداء والريبة والتشكيك في أخوة الشقيقين إنما يغتال رفيق الحريري مرة ثانية.
انه إنما يطلق رصاص الحقد على تاريخ الرجل الكبير وانجازاته، بل على هويته وسجل نضاله القومي.
ولقد علمتنا التجارب، وهي كثيفة ومريرة، ان ممارسة العنصرية ضد »عربي« محدد إنما تكون مقدمة لممارستها على كل العرب، وتجربتنا مع »الفلسطيني« بالذات شاهد وشهيد.
قد تطرأ بين لبنان وسوريا خلافات سياسية، وقد يرتكب بعض السياسيين خطأ التوجه نحو »القطيعة« كما حدث قبل نصف قرن أو يزيد،
… ولكن العلاقات بين الشعبين الشقيقين كانت تستمر وتتواصل في مجراها الطبيعي، أخوة ومصاهرة وتعاوناً طالما اقترب من التكامل، لولا شيء من »الاقليمية« والمنافسة الغبية وأحياناً تلك النعرة الأنانية التي تحاول الاستئثار بمنافع شخصية عارضة على حساب المصالح الحيوية الدائمة للبلدين.
ان المتاجرين بهذه العنصرية بحجة الحرص على استقلال لبنان وتحريره إنما يهمّون بقتل لبنان، ويباشرون اغتيال عاصمته بيروت، التي كادت تكون »عاصمة سورية« أيضاً، كما هي مدينة كل عربي وعاصمته ومهوى فؤاده.
* * *
كلمة إنصاف، للتاريخ، قبل اختتام هذا الحديث:
كان الشهيد رفيق الحريري ضد التدخل الدولي، وقد سعى جاهداً وبقدراته الشخصية المحدودة، على غنى صداقاته الدولية لتعطيل التوجه إلى مجلس الأمن، وبالتالي لمنع صدور القرار 1559.
… وبعد صدور القرار كان ما يشغل بال رفيق الحريري كيف يحد من إضراره بمصالح لبنان وسوريا، وكيف يمكن تحصين الداخل ضد مجرياته، وبالتحديد كيف يمكن توفير الحماية ل»حزب الله« من منطوقه (وهو المستهدف به، أولاً وأخيراً…).
… وحتى لحظة استشهاده فإن رفيق الحريري كان يفكر ويسعى ويتحرك ويعمل لإعادة صياغة العلاقات اللبنانية السورية بما يطهرها من العيوب والشوائب، من الاخطاء والخطايا، ويحصنها في وجه التدخل الدولي، وانصار التدخل الدولي في لبنان الذين وجدوا في الخلل الذي اصاب علاقات الأخوة منفذاً إلى »احتواء« البلدين بتعميق التعارض بينهما.
وعلينا ان نتذكر دائماً ان رفيق الحريري قد بدأ قومياً عربياً، وعاش قومياً عربياً، واستشهد قومياً عربياً…

Exit mobile version