طلال سلمان

رسالة من لبنان.. كانت شخصية

كتبت ودموعها تسبق كلماتها لتبلل السطور فيحتار الحرف أين يقف. كيف يقف وقد خرج بسبب الغضب والقهر من فمها مترنحا. وصلت الرسالة، إن صح تسميتها رسالة. حروف في كلمات كثيرة تدخلت بتأثير الدموع في كلمات أخرى فتداخلت كل الكلمات، حذفت الدموع حروفا ورسمت أشكالا بعضها قاتم وبعض آخر باهت، فأضافت إلى الرسالة غموضا فوق غموض وحزنا فوق حزن. تدخلت بدوري. فصلت حروفا عن حروف وأضفت حروفا إلى كلمات. محوت هياكل حبر كللت بالسواد أركانا وفضاءات. تركت الرسالة مفتوحة تحت ضوء مصباح مكتبي وعدت إليها بعد ساعة عازما على فك الغموض ومصرا على معرفة ما كان يدور في عقل أو لعله قلب كاتبة الرسالة التي هي صاحبتي منذ أيام زمان، أي منذ بعيد.

***

كتبت في مطلع الرسالة تقول “أعرف كم كنت تحبني. لن نبكي الآن على حليب مسكوب. كنت شابة صغيرة أنثر عطري وأنا أمشي ويمشي خلفي ومن حولي رجال من كل الأعمار. كلهم في محراب حبي كانوا يراهقون،  العجوز قبل الشاب. يأتون من مشارق العرب ومغاربهم تسبقهم أحلامهم.  تألقت في كل حلم وأبدعت. هم أيضا تألقوا. لم أقابل واحدا غير خلاق.  حتى أنت يا صاحبي كنت تبتكر وأنت الوقور والمتزن وحامل كل الفضائل.  كل واحد منكم مس في أحاسيسي شيئا لم يمسه آخر. قالوا عني هذه أعجوبة زماننا وزمان غيرنا. تذكر ولا شك. كنت قريبا إلى قلبي. أطمئن في وجودك وأناديك في غيابك. أعترف لك الآن أنني كنت أنفعل بالغضب حين تطنب في النصائح. أشفقت على حبيبتك من الغرور، فالغرور هدام كما كنت تقول. عاتبتني كثيرا عتاب المحبين وتحملت فأنت الأغلى. أظن أنك كنت تعرف أن من العتاب ما يثير المرأة ومنه ما يبرد لهيبها. أنا بالغت في شططي وأنت بالغت في خوفك وعطفك. خفت من تكالب الأقوام حولي، هذا يتمسح في أطراف ثوبي والآخر يمسح على شعري وثالث يتعبد عن بعد في ثنايا تضاريسي ورابع يقضي نهاره محملقا في وجهي كرجل الهند الذي حكيت لي عنه يقضي نهاره محملقا في شمس الهند الحارقة لا يغمض له جفن ولا يأكل ولا ينام إلا عندما تغيب الشمس. رجل الهند كان كما تروي في حكايتك يعبد الشمس، رجل يعشق لهيبها ولا تلسعه نارها. وتريدني ألا أغتر!. أنت وغيرك أسقيتموني من هذا الكلام ما أسكرني، وعندما  طغت السكرة وتمكنت مني فتصرفت كما يتصرف السكارى عدتم تلومون وتغضبون وتعاتبون”.

***

جاء أيضا في الرسالة المبللة كلماتها بدموع الكاتبة “كثيرا ما همست لك وأنت في حضني خذ حذرك مني فأنا صغيرة لا أفكر في العواقب. لم أصدق وقتها أن الآخرين يكذبون أو يبالغون أو ينافقون. اعتقدت على الدوام أنكم فعلا وجميعا تحبونني، لا يفرق أحدكم عن الآخر سوى درجة هذا الحب. اعتقدت أيضا أن الحب عندكم نوع واحد. كنت دائما تحاول إقناعي بأن حبك لي من نوع مختلف. سايرتك طويلا. عشت جل عمري مقتنعة بأن الرجال، كل الرجال، مسيرون وليسوا مخيرين. يسيرهم نوع بعينه من الحب.  النساء يختلفن. النساء كما أعرف عن نفسي وعن غيري وأعرف منك أنت، أعرف أنهن في غالبيتهن الساحقة مخيرات. أدركن منذ البداية أن الحب كما رسمنه وتصورنه شرط لازم فإذا لم يأت به الرجل أتينا به نحن النساء، أو تخيلناه وتمنيناه ونتمسك بوجوده طرفا ثالثا في علاقتنا بكم.

***

“عزيزي، أنت أول من عرف أنني لم أخدع أحدا. تركت جمالي الطبيعي يسبقني إليكم. عرفتم كم كنت كريمة معكم. الآن وبعد هذه السنين العديدة التي قضيتموها في عشي الأنيق والمتواضع يحق لي أن أسأل لماذا تخليتم عني وقد صرت أعتمد على كلامكم. لا أسمعكم تغردون كما كنتم تفعلون. لا أراكم تهرولون ناحيتي، أراكم تهجرونني ربما إلى غيري الأصغر سنا. أدرتم لي ظهوركم. هل قصرت معكم. عشت عمرا بعض قوتي وملبسي وشرابي من عائد ما تكرم به خالقي والباقي من إنجازاتي وانتصاراتي في معاركي العاطفية التي دارت معكم. نعم كبرت عمرا ولكن لم أتغير. أنتم من تغير وعندي من البراهين ما يثبت قولي. أنتم تغيرتم وأنا على حالي التي عرفتموها يوم تلاقينا أول مرة. لا أبالغ ولكن أتمنى.

***

كان يجب أن أرد إكراما لأيام تبقي في القلب لا تنسى. قلت لها “تذكرين مكان أول لقاء. هناك أقمنا للحب تماثيل. خدعتنا التماثيل. تحولت إلى أصنام في انتظار عبادها وهم الذين صنعوها. ذهبنا منذ أيام إلى المكان فقابلنا الخفير. قال كان هنا مكان وغاب بعد أن جمع أشياءه ومنها الحب والدموع ورسوم وكلمات على جذوع الشجر. قال أيضا، وأقصد الخفير، أنه سأل فجاءت إجابة لم تشف غليله، قيل له لم يعد المكان يحتاج إلى الحب أو جاهزا ليرعى عشق المحبين. جفت شرايينه وأشجاره وهربت حيواناته الأليفة ونضبت الطاقة وانطفأت الأضواء وتوقفت الحركة. الحمراء لم تعد حمرا والجميزة خلت من روادها والشاطئ اكتسى بنفايات من كل صوب أتت وزرقة البحر غابت مع ما غاب ومن غاب.  قلت لها أيضا “أعذرك يا جميلة. مكاننا هاجر مع آلاف المهاجرين. خلف وراءه عددا من أشباه الجنرالات وعباقرة المال والاقتصاد وعددا آخر من جهابذة السياسة والتجارة والدين والجريمة، كل هؤلاء اجتمعوا عليك في ليلة طويلة، ليلة حالكة. اغتصبوك يا صغيرتي فحملت وحوشا أراها وترينها تكبر أمام أعيننا. أخاف عليك منها. وحوش مثل رجال اغتصبوك نراها تزحف  نحو الأم التي ولدتها، تهجم عليها لتنهش لحمها وتشرب من دمها. أقول لها، للأم التعيسة، طفلتنا المنكوبة في رجالها وأبنائها، اذهبي بعيدا، تطهري ثم عودي إلينا. بالتأكيد سأكون في انتظارك”.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version