طلال سلمان

رسالة سوريين وصلت دستور اولا

اطمأن السوريون إلى ان رسالتهم قد وصلت، أخيراً، عندما استمعوا إلى الرئيس بشار الأسد يبلغهم، من فوق المنبر في مدرج جامعة دمشق، إسقاط العصمة عن الدستور المعمول به منذ العام 1971، والذي ينص على ان حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع.
لقد فتحت هذه الجملة السحرية الباب المرصود للأمل بالتغيير، وأسقطت شبهة القداسة المفروضة بالأمر على النظام الذي اثبتت الوقائع بالدم، انه ينتمي إلى عصر مضى، وانه بات يهدد الدولة والمجتمع، متمسكا بلافتة الحزب الذي اكدت الأحداث الدموية التي شهدتها سوريا، بمختلف ارجائها، طوال مئة يوم او يزيد، غيابه ليس عن موقع «القيادة» فحسب، بل أساساً عن «الجماهير» التي يفترض انه «قائدها».
أول الاصلاح، إذاً، تحرير الدولة والمجتمع، والرئيس أساساً، من هذا الاطار الذي تحول إلى قيد، والذي فقد «سحره»، ولم يعد ينفع في تمويه «السلطة» او في التغطية على الموقع الفعلي للقرار، وإن كانت القيادات الحزبية في مراتبها العليا قد ارتضت ـ لسنوات طويلة طويلة ـ دور «الواجهة» وعلبة الاختام ومطبعة البيانات وجبهة الدفاع عن القرارات التي تبلغ بها بعد اتخاذها، وأحيانا بعد تنفيذها.
… هذا فضلاً عن ان منهج الحزب الواحد او الحزب القائد، الذي تُلحق به «جبهة وطنية تقدمية» تضم ـ كجوائز ترضية، او كحلي تزيينية ـ بواقي الأحزاب المحدودة الوجود والقدرة، قد بات من الماضي في العالم كله، ما عدا كوريا الشمالية ذات «الزعيم الخالد لاربعين مليون كوري»، في حين ان الصين قد وجدت صيغا عملية لتخطيه مع الحفاظ على علمها الأحمر.
لقد باشر الرئيس تحمل مسؤولياته. وبعدما طمأن الناس إلى انه ليس أسير البيت والعائلة، كما اشيع وأذيع خلال فترة الأزمة الدموية التي عصفت بسوريا طوال الأيام المئة الأخيرة، والتي فاقمت من خطورتها ارتكابات مشهودة لبعض المتحصنين بأنسابهم، فإنه قد اعاد إلى الشعب حقه الطبيعي في وضع دستور عصري يستجيب لمطامحه قبل مطالبه، وينهي حقبة حكم الفرد المتحصن خلف غلالة دستورية رقيقة لا تنفع في تمويه الواقع وتأكيد انتعاش الديموقراطية.
البداية، إذاً، هي البداية: الدستور بما هو قاعدة بناء الدولة العصرية، التي يتساوى فيها مواطنوها في الحقوق والواجبات، لا افضلية فيها لمن التحق بالحزب بالأمر او بالمصلحة لأنه السلم إلى السلطة، ولا تمييز بين المواطنين على قاعدة الولاء للنظام الذي كثيراً ما غيب او تقدم على الولاء للوطن ودولته، ولا طمس لمكونات الشعب في الدولة التي لا يجادل احد في هويتها العربية او في دورها القومي، بل ان هذا الشعب قد اكد، باستمرار، صلابة ايمانه بعروبته، حتى لقد قدمها على دولته ذات يوم.
ومع ان ثمة ملاحظات عدة على الصياغات المتعجلة لقانون الأحزاب وقانون الاعلام وقانون مكافحة الفساد، التي وضعها ـ او يضعها الآن ـ من يطلق عليهم «اصحاب الاختصاص»، فقد كان من البديهي ان تشارك في مناقشتها قطاعات عريضة تعكس المطامح الشعبية وروح العصر، فإن الاستعجال قد يقصر عن تحقيق إرادة المجتمع، إذ لا يتصل الأمر بالنصوص بل بالموجبات التي فرضت التعهد بصياغة دستور جديد خلال مدة زمنية قياسية.
ان الحوار الوطني العتيد الذي يجري الاعداد له الآن واختيار القوى والشخصيات المؤهلة للمشاركة فيه، وتحديد جدول اعماله، لا يمكن ان يكون مثاله تلك «المشاورات» او «المناقشات» التي اجراها بعض كبار المسؤولين في جلسات مفتوحة مع ممثلين لأحزاب مشاركة ـ ولو رمزيا ـ في السلطة، او مع مفكرين ومثقفين من اصحاب الرأي، وكانت اقرب إلى تبادل لوجهات النظر بين متفقين او مختلفين لا يملكون من اسباب القوة غير أفكارهم التي قد تكون مثالية، والتي لا يمكن لمتلقيها الحكم بصحتها او بخطلها، او اعتمادها كقاعدة للعمل السياسي بوصفها اساس الديموقراطية.
وبديهي ان يكون هذا الحوار مفتوحاً ورحبا بحيث يتسع للمختلفين مع النظام قبل المستفيدين منه، وللحريصين على الدولة والوطن بهويته وأهله جميعاً، المعارضين منهم قبل الموالين، وبخاصة اولئك الذين اعتقلوا او أبعدوا أو طردوا من وظائفهم او فرضت عليهم الإقامة الجبرية او منعوا من السفر بقرارات اعتباطية اعطت للأمن حق الحكم المبرم على مواطنين شرفاء وادانتهم واتهامهم في وطنيتهم بغير دليل، او بتهمة ملفقة عنوانها نقص الولاء للنظام وأجهزته.
لقد توجه الرئيس بشار الأسد إلى الشعب السوري، من فوق اسوار نظامه، يدعوه إلى التقدم نحو واجب اعادة بناء الدولة ومؤسساتها، بما يحمي وحدة الشعب التي خاف عليها العرب جميعا، واللبنانيون في الطليعة منهم، بسبب القربى قبل القرب، والتشابه قبل التماثل…
وها ان الشعب السوري قد اعاد أمس، عبر تظاهراته الحاشدة، تأكيد استعداده لحماية وحدته بأرواحه ودمائه، مسفها كل المحرضين ودعاة الفتنة وتجار الطائفيات والمذهبيات ومن يقف خلفهم من القوى المعادية، دولاً اجنبية معادية بحكم مصالحها للمستقبل العربي عموماً، وانظمة وقوى سياسية عربية لا يهمها ان تهدم أوطانا ودولا عربية بالفتنة، إذا ما كان في ذلك ما يرفع سعر النفط، او يلغي مراكز التأثير الخارجة على إرادتها وادعائها النطق باسم هذه المنطقة التي تعيش الآن واحدة من اخطر مراحل التحول في تاريخها، والتي ينزل فتيتها إلى الساحات والميادين ليؤكدوا هوية أوطانهم وليعيدوا بناء دولهم بحقوقهم فيها، وبما يتناسب مع طموحاتها إلى غد أفضل.
ان خطاب الرئيس الأسد خطوة أولى في طريق طويل.
ولقد نزل السوريون إلى الشوارع والساحات أمس كي يحموا قراره، وكي يشجعوه على اكمال المسيرة نحو تحديث هذه الدولة ذات التاريخ وذات الدور المحوري في منطقتها.
لقد منح السوريون، دولتهم وقيادتها دوراً استثنائياً يتجاوز قدراتها، وذلك بوحدتهم الوطنية وتجاوزهم كل أنواع التحريض الطائفي والمذهبي.
وهم الآن يؤكدون، مرة اخرى، انهم يطلبون الاصلاح، وهو حق لهم، ومدخله الدستور العصري، الذي يعيد الدولة إلى موقعها الطبيعي، فوق النظام، والذي يعيد الرئاسة إلى موقعها الطبيعي كحصيلة لإرادة الشعب وبالانتخاب الديموقراطي وليس بالاستفتاء الذي تكشفت مآسيه في أكثر من قطر عربي.
وفي انتظار تحقيق ما تعهد به الرئيس بشار الأسد لشعبه، يأمل اللبنانيون وسائر العرب ان تكون المحنة التي عاشتها سوريا في الأيام المئة الماضية قد دخلت لحظات النهاية.

Exit mobile version