طلال سلمان

رسالة إليها من رجل تعلم الحب بين يديها

عزيزي وأستاذي،

أنت عمري. أبالغ  قليلا ولكني لا أتطاول. قصدت باختيار هاتين الكلمتين فاتحة لخطابي أن أعترف أن ما عاصرته وما تعلمته خلال السنوات التي قضيتها أدرس وأتدرب وأعمل تحت إشرافك ترك علامات في شخصيتي وعلى سلوكي لا تخطئها عين ولا يغفل عنها حس أو وعي. أتصور أنك لن تخمن بالدقة أو على الفور هويتي وبعض تفاصيلي من مجرد قراءة هذا التقديم لخطابي فكثيرون اختلطوا بك لطبيعة عملك وخضعوا لإشرافك وارشاداتك، ولا بد أنك تركت علامات في شخصياتهم وعلى سلوكياتهم كتلك التي تركتها في شخصيتي وعلى مجمل تصرفاتي. آخرون مروا أمامك مرور الكرام وغيرهم أقاموا ولم يطل بهم المقام. هذا النوع لم يترك أثرا ولا تأثر.

سيدي، أنا مختلف. أنا تأثرت وأعلم يقينا أنني أثرت بفعل ما تأثرت. أنا واحد من كثيرين شربوا من نبعك، نبع  الحب المتدفق، ذهبنا إليك ونحن ظمآى، وخرجنا من عندك وقد ارتوينا. لم يبخل مدربونا علينا بما أوتوا من علم وما حققوا من نجاحات وما اكتسبوا من تجارب وخبرات. بادلناكم الصدق بما تستحقون من وفاء وتبادلنا فيما بيننا عواطف قوية. عندك، في قاعات الاجتماع وصالات العمل وأحيانا في مطبخ المكان، نشأت صداقات ما زلنا نرعاها وتولدت علاقات اقتبسناها من شتى تنويعات الحب، تنويعات عشنا بعضها  في المكان أو سمعنا عنها أو رأيناها على شاشات السينما أو قرأناها في سن المراهقة أو جربناها شبابا في حدائق قصر النيل والقناطر الخيرية وعلى رمال شواطئ البحرين المتوسط والأحمر. لم تمانع. كنت نعم  المشجع والمرشد والمعلم والمربي.

أخالك وقد تمكن منك الفضول. إذا أردت أن تعرف كيف وقدر ما أثرت فينا وتأثرت بنا فلتقرأ في السطور التالية نص رسالتي التي بعثت بها صباح اليوم إلى زميلة كانت معنا في نفس الزمان ونفس المكان، رائعة من روائع الخالق، ثمرة من ثمار بستانك البديع، أكفأ من توليتهن برعايتك وعنايتك. تفضل فاقرأ يا سيدي.

•••

روح قلبي،

نعم صدقيني. أنا هو صاحب هذا النداء. أنا من كان يناجيك على ضوء القمر ويناجي القمر على ضوء ابتسامتك. أنا من كان يتوسل للقمر باسمك واسمي أن يحتل مكانا في كبد السماء لا يتركه، نتوسل إليه أن يبقى ما بقينا ولا يغيب كعادته. أتذكرين رد القمر على توسلنا. قال “أنا الذي يجب أن أتوسل إليكم. من فضلكما، أعزكما الله، أبقيا حيث أنتما. صدقاني، أنا واثق من أن طاقتي، طاقة النور والجمال، إنما استمدها من حبكما. أغيب لخوفي من أن تملا من حضوري الغامر أو أن تحنا إلى شيء من العتمة. تعلمت منكما أنه حتى العتمة صالحة لشحن الحب، وأحيانا تتغلب طاقتها على طاقتي. علمتني النجوم عبر علاقة دامت ملايين السنين، علمتني أنه في غياب الظلام هي تغيب. النجوم مثلي مدينة بوجودها وجمالها للظلام. لا نجوم ولا قمر في عز النهار. عندما أغيب عنكما تأكدا أنني رحت إلى مكان حيث لا أحد يراني وأنا أتجمل  من أجلكما ولأعود لكما. أعود مبهرا ومشجعا وفي شكل جديد وموعد جديد. أرجوكما، لا تختفيان هربا من كثرة تطفلي ولا تضجان بالشكوى من طول انحشاري بينكما أو دوراني حولكما”.

روح قلبي،

تذكرين كم رحلة عمل وفرها لنا أستاذنا. في كل واحدة من هذه الرحلات زدنا علما وزدنا حبا. كنت دائما هذه الفتاة الرشيقة، هادئة ساكنة إن توقفنا عن اللعب صاخبة متعجلة إن عدنا للركض والقفز. صعدنا وأنت معنا في المرتفعات القريبة من العاصمة النمساوية إلى قمم ليس فيها سوى أكواخ يجهزون فيها ويخبزون فطائر التفاح. كنا من أجل فطيرة نصعد ساعتين ونهبط في ساعة وخلال صعودنا وهبوطنا يضيع منا الطريق، يضيع عن عمد ولا نجده عن عمد إلا حين يقترب الغروب.

وفوق الهضاب المحيطة بفلورنسه تختفين. نبحث ونبحث وننادي عساك تسمعين أصداء النداء تتكرر في الوديان. نسأل عنك رعاة الغنم فيتضاحكون ويتخابثون ويتغامزون وبعد طول لهو ومرح تنهضين واقفة وسط قطيع الغنم تغنين مع الرعاة أغانيهم الجبلية الخلابة.

وعند سفوح الأطلس ضعت منا، أو لعلك كعادتك أضعت نفسك عنا. قضينا جل النهار نسعى ونسأل. كاد الليل يسدل علينا ظلامه وبدأنا نخاف أن نفقد طريقنا إلى الحافلة. فجأة خرج علينا من وسط ضباب الغروب فارسا مهللا ومرحبا ومبشرا أن فتاتنا وصلت سالمة إلى قريتهم وأهل القرية والقرى المجاورة في انتظارنا والخراف جاري شيها على طريقة أهل الجبل. هناك قضينا ليلة من ليالي الجنة.

مرت سنوات نتعلم ونتدرب ونلهو. كنت دائما زهرتنا اليانعة. لا تغضبين ولا تحزنين ولا تيأسين. كنت معنا في كل وقت ومكان إلا يوم اعتذرت من الأستاذ ومني لتؤدي واجبا عائليا. سافرت وغبت. ولا حس ولا خبر. تدهورت صحتي وأثقلت على الأستاذ بالشكوى. كان يرد بالقول “ستعود. هذه بعض ألعابها. أنت تعرفها جيدا، تعرفها أكثر منا جميعا، تعرفها أكثر مما تعرف نفسك. أصبر يا شاب. فتاتك ستعود”. بدأت أشك أنه يعرف شيئا يخفيه عني. ثم هاجمتني الوساوس. صرت أظن أن كل الفريق يعرف عنك ما لا أعرف. ذات يوم جمعنا الأستاذ ليعلن وباسم الجميع الاعتذار أنهم أخفوا عني حقيقة أن صاحبتي وزميلتهم الغالية تزوجت وأنجبت وأنهم عجزوا عن الاتصال بها حتى باتوا يعتقدون أنها انتقلت وعائلتها للعيش في بلد آخر.

روح قلبي،

مرت على آخر ألعابك وآخر شقاواتك حوالي ثلاثون عام. زارتني قبل أيام صديقة كانت قريبة منا نحن الاثنين. أسرت لي بأنها عرفت أنك عدت. عرفت أيضا عنوانك. سمعت صديقتنا من حامل الخبر أنك عشت معظم الوقت في الخارج متفرغة لتربية ابنك. أنا ايضا نجحت. عشت رجلا يحب.

 ينشر بالتزامن مع بوابة الشروق 

Exit mobile version