طلال سلمان

رسالة إلى الذي لا يغيب

لم نتعود التخاطب كتابة يا ابا الزوز. كنت قليل الكلام. وكنت أقرأ عينيك وأثرثر في محاولة ترجمة ما تفكر فيه، وغالباً ما أعجز عن القراءة، فأنتظر أن تختفي لأفهم ما كنت تفكر فيه، وما ستحاول تبريره بعد سنوات من النسيان.

كنت تغيب فلا تغيب، وتحضر فتعود إلى طاولتك وأوراقك وكأنك عائد من جولة بين الكتب وابواب المعرفة… لذا كنت تعود أغنى معرفة وأوسع ثقافة، بينما نحن نغرق أكثر فأكثر في جحيم حروب الطوائف التي تلتهم “القضية المقدسة” التي كان ايماننا بها يُعطي حياتنا المعنى.

بدأت في “السفير” ومعها. لم تكن واحداً في أي يوم. دخلت مع مجموعة لا تتهاوى خلافاتها الفكرية والسياسية الا في حضورك ومعه. وبقدر ما كنت شرساً في مقارعة “الخصوم” فقد كنت حريصاً على كسبهم ومصادقتهم متجاوزاً الخلاف الفكري والعقائدي، متجنباً “المتعصبين” من الجهلة المتمسكين بالموقف المن فخار.

كنت تمد اليوم فيصير كأنه اسبوع: بعضه للكتابة، وبعضه للندامى وما تبقى منه يكفي لالتهام مكتبة.. وبعدها يجيء الابتكار والإبداع وخلق المعنى الذي يستشرف المستقبل من قلب ماضي الاجتهاد والافكار المهجورة لصعوبة فهمها على المغلقة عقولهم بالتعصب.

كنت تغرف من الثقافة غرفاً، ثم تنصرف إلى تعميمها. ولم تكن تطيق الجهلة مع غرور ادعائهم انهم من أهل الثقافة.

في المرة الأولى جئت إلى “السفير” لتتعلم اصول المهنة، كتابة بدل الخطابة، وفي المرة الثانية رجعت اليها لتُعلم بعض زملائك ضرورة تقبل النقد وتمزيق ما هو دون المستوى.. أما في المرة الثالثة فقد جئت وقد اكتنزت بالمعرفة لنستدرك معا ما ضيعته علينا الحرب الاهلية من رحابة الفكر والقلب لتقبل “المختلف” والتفريق بين الخصومة السياسية والعداء القبلي.

ولقد أسهمت مع اسرة التحرير التي باتت بعض اهلك، في إعادة صياغة “السفير” بروح الحداثة التي تيسر لك أن تشربها في كل من باريس ولندن، وهكذا تجدد شبابها ضمن خطها الوطني ـ القومي التقدمي بوصفها ـ منذ صدور عددها الاول ـ “صوت الذين لا صوت لهم-جريدة لبنان في الوطني العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان”.

أخي جوزف

عشت معنا سنوات الحرب الاهلية ونحن نحاول حماية قضيتنا المقدسة، فلسطين، بوطنيتنا التي لا تحصنها الا عروبتنا.. ثم ذهبت إلى مشروع باسم فلسطين مع رفيقنا بلال الحسن، الذي نفتقد دوره في خدمة القضية، مثلك.. وعدت إلى ادارة التحرير في “السفير” بعد غياب أنضج خبراتك، وجعلك أكثر دقة، وأكثر استعداداً لقبول الآخر، وأشجع في مواجهة مشاريع الاستعمار والامبريالية.

أما في المرة الثالثة فقد جِئتَ لتتولى رئاسة تحرير “السفير”، التي ما كنتُ لأتنازل عنها لغيرك.

..ولقد اخترت أن تخرج، مع الزميل ابراهيم الأمين، من “السفير” لكي تخوض معه تجربة الرصيفة “الاخبار”.. وتقبلت ذلك الخروج لاجئا إلى قول كليب لشقيقه المهلهل بلسان امل دنقل “سيفان سيفك”..

ذهبت مهنئا، ومعتزاً بأنني لم اعد وحدي في الساحة.. وفرحت بنجاح “الاخبار” التي عززت موقع “السفير” في خطها ونهجها، خصوصاً وقد بلور جوزف سماحه فيها الاطلالة الفكرية والتقدمية من قلب العروبة وليس من خارجها.

على أن هذا الفارس المتحول الذي ولد في الخنشارة ونشأ في كنف والدته في بينو بعكار حيث ستبدأ الصداقة مع حازم صاغية، وانضم إلى الحزب الشيوعي مبكراً من دون أن يغادر عروبته، وقاتل في الحرب الاهلية، وناضل في صفوف الطلبة، ظل يسعى إلى المعرفة والمزيد من المعرفة، والى الثقافة والمزيد من الثقافة من دون أن يرتوي.

ولا شك أن تجربة الحياة وحيداً، بعيداً عن عائلته، في بيروت بينما بقيت في فرنسا، قد وسعت هامش حريته الشخصية، فقرأ أكثر، وأنشأ شبكة من العلاقات مع مروحة واسعة من المثقفين، عززها بعلاقة مميزة مع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.

وفي عز الاحتياج إلى عقله وثقافته وموقفه السياسي الصلب، مع استنارة، غادرنا جوزف سماحة اثناء زيارة له إلى لندن للاطمئنان إلى صحة صديقه حازم صاغية.

في ذكراه الثانية عشرة، هذه التحية للقلم المضيء: جوزف سماحة.

Exit mobile version