طلال سلمان

رد على عتاب علاوي ل»السفير« حكومة امر واقع نعم ولكن

لم يفاجئنا عتاب الدكتور أياد علاوي ل»السفير« التي يرى أنها قد قست على حكومته ذات السيادة، خصوصاً وهو يلقى الترحيب الحار في جولته العربية، بعدما غيّب الجميع تحفظاتهم وأقبلوا على استقباله بما يتخطى التعامل مع الأمر الواقع..
كذلك لم يفاجئنا أن نسمع مطالعة فصيحة تتخطى العتاب إلى النصيحة من وزيره وصديقه اللدود الدكتور مهدي الحافظ خلاصتها أن الأوضاع في العراق »أفضل مما يتصور الناس، وأن من الحكمة التعامل مع الأمر الواقع والتخلي عن الشعارات والتمنيات البراقة والتي لا مجال لتحقيقها. هناك احتلال، نعم! ولكن ظروف العراق المدمر، وتفكك القوى القومية، وغياب القيادة المؤهلة لتسلم المسؤولية وتوحيد الصفوف، وانعدام التأثير العربي في العراق، حيث لا وجود للعرب (بدولهم)، لا يمكن بأن تسمح بأحسن مما نحن فيه«.
من حق أياد علاوي أن ينفخ صدره بزهو وهو يعود إلى البلاد التي استقبلته في الماضي »لاجئاً سياسياً« هارباً من بطش »رفيقه وقائده« صدام حسين، فتستقبله اليوم بالسجاد الأحمر وحرس الشرف والنشيد الوطني (المستحدث) وبالموكب الرسمي الذي تملأ صفارات دراجاته وسيارات المواكبة الفضاء بدويها المجلجل… وهو غير الدوي الذي ينهكه في بغداد وسائر المدن والقصبات في أرض الرافدين، معلناً على مدار الساعة أن كل ما في العراق، حتى اللحظة »مؤقت« و»مهدد« بالنسف والتفجير، بما في ذلك حكومته التي منحها الاحتلال الأميركي »السيادة« مقابل أن تغطيه وتحجب ما أمكن وجوده الثقيل الوطأة على العراقيين كما على »دول الجوار«، بل وعلى العالم غير الأميركي جميعاً!
وبديهي أن يتنافس ذكاء البعثي العتيق مع ذكاء اليساري العتيق فيخلص العلاوي والحافظ معاً إلى أنهما في موقع قوة يمكّنهما من اختيار أفضل وسائل الدفاع بالمبادرة إلى الهجوم بدل أن يقبعا في مواقع المتهَمين في وطنيتهما فضلاً عن كفاءتهما.
لا أحد يستطيع الامتناع عن استقبال هذه الحكومة المؤقتة التي تنظر إلى نفسها على أنها دائمة، أو مواصلة الطعن في شرعيتها… للأمر الواقع قوته، فكيف إذا كان »المعترضون«، مبدئياً أو ضمناً، أضعف من أن يغيّروه، أو كان هذا الأمر الواقع أقوى من أن يرفضوه… فالرفض مكلف، وبيوت الجميع من زجاج، ولا ضير في المهادنة وترك الأمر لصاحب الأمر، وتحميل شعب العراق المسؤولية، وحده، وإسقاط التوصيف »النابي« لقوات الاحتلال التي بفضلها تمّ الإنقاذ، ومن ثم التشكيك في تجسيد حكومة العلاوي للسيادة وربما للإرادة الشعبية.
المسألة غاية في التعقيد! هذه هي حكومة العراق التي يعتبرها أهلها »أفضل الممكن«، والمعبر إلى »العهد الوطني«، ولا بديل منها إلا ذلك الخليط المتنافر من »جماعات القتل الشرعي« بالسيارات المفخخة، وعصابات المجرمين واللصوص والابتزاز الجماعي أو الفردي، ثم المقاومات التي بلا رأس وبلا حاضنة (وطنية أو قومية..) وبلا برنامج واضح لتحرير العراق من دون تدميره بمسلسل من الحروب الأهلية، بعضها طائفي المنحى، وبعضها الآخر عنصري المنطلق والهدف، وكلها لا تخدم بالنتيجة إلا المحتل وإدامة وجوده في أرض الرافدين.
أقوى ما في مواقف حكومة علاوي أن الآخرين لا يستطيعون محاسبتها فعلياً، لا سيما على الجوهري من مسائل الحكم وشرعيته.
وإلى ما قبل سنة ونصف كانت علاقات أي طرف سياسي مع عراق صدام حسين، الطاغية »الوطني« المتلفع بالشعارات القومية، تعتبر تهمة شنيعة وإن ظل الحساب عنها مرجأً..
وكثير من المرحبين بأياد علاوي اليوم يحاولون استعادة أو تجديد علاقة عملية مع عراق النفط والأعمال وإعادة الإعمار، مسقطين السياسة من الحساب.. فهم »عمليون« لا علاقة لهم بالعقائد بل بالمصالح، ولا يهمهم شخص الجالس على الكرسي »فالملك هو الملك«، والمهم »التوقيع الذهبي« على الصفقات بأنواعها.
ومن السهل في ظل العجز العربي الشامل قلب محاكمة حكومة علاوي ومن معه إلى محاسبة بمفعول رجعي لمن كانوا ساكتين عن طغيان صدام حسين، فكيف بمن كانوا يتعاملون معه؟!
* * *
ليس في جولة أياد علاوي بحكومته على مجموعة من الدول العربية من »السياسة« إلا توكيد شرعية هذه الحكومة عربياً، والتعامل معها كعضو كامل الأهلية في نادي الحكم.. عربياً.
السياسة لواشنطن، وحكومة علاوي جسر أو طرف موصل للحرارة.
ولا تنقص أياد علاوي البراعة في تخريج المواقف، والدفاع عن الماضي بالحاضر، وعن التحولات بالضرورات التي تبيح المحظورات.. فصدام حسين وفّر بطغيانه ودمويته أعذاراً لا يستطيع أحد رفضها، وتبريراً لما كان في منزلة »الخيانة الوطنية«، كمثل التعامل مع المخابرات الأجنبية، والتسليم بالاحتلال الأميركي باعتباره إنقاذاً للكيان السياسي للعراق ولوحدة العراقيين.
ويعرف علاوي موقعه كموصل جيد للحرارة، وقد عبر وزيره الآخر والأعظم فصاحة هوشيار زيباري، عن الدور الطيب الذي تلعبه هذه الحكومة لحساب العرب مع الأميركيين: لقد نقلنا رسائل، وطلبنا، ولمسنا التفهم لدى واشنطن!.
وبقدر ما يحرص علاوي وسائر حكومته على نفي الوجود أو الدور الإسرائيلي في العراق عموماً وشماله خصوصاً، فإن مصادر أميركية موثوقة لا تفتأ تؤكد هذا التغلغل شبه العلني في »كردستان العراق« والمخابراتي في بغداد وسائر العراق..
ومع انه تصعب محاسبة حكومة علاوي على هذا الوجود الإسرائيلي المموه بجواز المرور الأميركي، فمن الصعب قبول تأكيداتها المستمرة في نفي هذا الوجود الذي لا يمكن التقليل من خطورته على صورة عراق المستقبل.
بالمقابل، يرتج على علاوي وأفصح وزرائه، كمهدي الحافظ، تبرير الغياب المطلق لأية إشارة إلى »عروبة« العراق، ودور العراق العربي… وليس إطار »دول الجوار« توكيداً للهوية القومية؛ خصوصاً ان الدولتين الأكبر في هذا الجوار ليستا عربيتين، وأن مصر قد »أدخلت« للتوازن، وكإطار حماية للوضع الناشئ في العراق، تحت الرعاية الأميركية.
* * *
لا أحد يريد مساءلة أياد علاوي وحكومته، فضلاً
عن إدانته وإدانتها ولا أحد يملك الأهلية لمثل هذا الدور… خصوصاً في ظل العجز العربي المطلق عن المساعدة في بناء العراق الجديد.
لكن هذا الواقع لا يعطي أياد علاوي وحكومته، والوزراء الأقوياء الذين يرون في أنفسهم كفاءات لا يمتلك »رئيسهم« مثلها، الحق في مساءلة الآخرين، لا سيما خارج نادي الحكم في الدنيا العربية.
فالتسليم بالأمر الواقع ليس شهادة كفاءة عليا، وليس إشهاراً للطهارة وفعل ايمان بالوطنية، وليس ضمانة في وجه المخاطر التي تتهدد العراق، في كيانه ووحدة شعبه كما في عروبته.
ويعرف الدكتور أياد علاوي، وكذلك وزيره الحاذق مهدي الحافظ، ان »السفير« كانت وما تزال منبراً عربياً مفتوحاً لكل أصحاب الرأي والمجتهدين والمناضلين من أجل تحرير العراق من طاغيته، كما من أجل مستقبل أفضل للعرب، وشركائهم في أوطانهم (الكرد والتركمان والأشوريون الخ كما في حالة العراق)..
لم تكن »السفير« يوماً في طوابير المستفيدين من حكم صدام حسين، بل لعلها كانت بين فئة قليلة رفضت عروضه السخية في بداية عهده الميمون، ويوم كان الكثير من مهاجميه ولاعنيه اليوم يطمعون ويعملون ليلاً نهاراً ويبذلون الشفاعات لموعد معه، أو مع بعض »حوارييه«.
بل لعل »السفير« قد نالت جزاءها على موقف كنا وما زلنا نعتبره صحيحاً، وهو الاعتراض بأعلى الصوت على الحرب التي شنها صدام حسين، بغير مبرر على الثورة الإسلامية في إيران، وكان موقفنا ينبع من الحرص على العراق وعلى علاقة سوية بين العرب والإيرانيين الذين جاءت بهم الثورة الإسلامية من موقع الحليف القوي لإسرائيل إلى الشريك المقاتل إلى جانب الفلسطينيين (والعرب عموماً) ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ونفترض ان الدكتور أياد علاوي، الصديق أيام النفي والاضطهاد، ومثله الدكتور مهدي الحافظ، الذي عاش معنا كموظف دولي عالٍ لفترة طويلة، في بيروت، يعرفان جيداً ان »السفير« قد دفعت مثل العراقيين وقبل الكثير من المعارضين المنفيين ضريبة غالية لاعتراضها على منهج صدام حسين المدمر… فمع فجر الأول من تشرين الثاني نسفت بعض أجهزة الطاغية مطابع »السفير« فور الفراغ من اجراء التجارب عليها تمهيداً لتشغيلها، وقبل طباعة العدد الأول عليها.
ونفترض ان علاوي والحافظ يعرفان ان ثمة مرجعاً عربياً (لعله كان صديقاً لكليهما) قد عرض علينا توسطه، ثم جاءنا بعرض للتعويض، رأينا فيه »اغتيالاً شاملاً« ل»السفير« وأهلها يعقب نسف المطابع، وكان بديهياً ان نرفضه، متمسكين بإيماننا بشعب العراق وبحقه في النضال ضد الطاغية.
وقد يتوجب علينا الاعتذار عن هذه الملحوظة ذات الطابع الشخصي، لكننا أوردناها لنقول إن »السفير« كانت دائماً إلى جانب شعب العراق ولسوف تبقى، وإننا من هذا الموقع قد انتقدنا لجوء الدكتور علاوي إلى لغة الحجاج بن يوسف في حديثه إلى العراقيين.
وإننا من هذا الموقع أيضاً لا نقبل من حكومة علاوي كلها وبالذات من مثقف كبير، ماركسي الهوى كالدكتور مهدي الحافظ، هذا المنطق التبريري لتغييب هوية العراق العربية (كدولة) مع الاحترام الكامل للأخوة الأكراد، والذي يساعد بالنتيجة على التقليل من خطر التغلغل الإسرائيلي في العراق حتى لو كان مصدر اثباته أميركياً.
أعان الله العراق والعراقيين من قبل ومن بعد..

Exit mobile version