طلال سلمان

رد على رسالة وليد جنبلاط 2 عن »الجبل« قرار اخطاء وسوريا

الأستاذ وليد جنبلاط المحترم
.. ولكي نختم هذا الحوار الذي استجبت إليه مشكوراً، فلا بد من ملامسة بعض المسائل الجدية التي تطرقنا إليها فلاقت منك استهجاناً أو استنكاراً، فضلاً عن التساؤلات التي حاولت أن ترد بها على السؤال المفتوح كما الجرح: إلى أين من هنا؟!
أما المسألة الأولى فتتصل بالتحذير الذي أطلقته، وغيري، وكرره آخرون كثيراً في الفترة الأخيرة، من استعادة مناخ »المتصرفية«، وكأن »الجبل« بالثنائية الدرزية المارونية هو »لبنان«، أو أنه »الأصل في لبنان« والباقي »ملحقات« و»أطراف«.
لا بد أنك لاحظت سريان هذه »النغمة« الممجوجة بأي معيار وطني، في الفترة الأخيرة (قبل التمديد ومن ثم بعده بصوت أعلى).. وهي قد وجدت من يرفع الصوت بها في قلب مؤتمر المعارضة في البريستول وإن تحت عنوان »المصالحة التاريخية« التي تمت في الجبل بالجولة الحدث التي قام بها غبطة البطريرك الماروني، وزاركم خلالها في المختارة، ثم أنهاها في جزين، معتذراً عن إكمالها بإسباغ بركة حضوره إلى الجنوب الذي كان قد تطهّر للتو من الاحتلال الإسرائيلي بالمقاومة الوطنية الباسلة ودماء مجاهديها الأبطال.
ومع الترحيب المكرر بتلك »المصالحة التاريخية« بين دروز الجبل ومسيحييه فإن آلافاً مؤلفة من المواطنين قد هُجِّروا من مناطقهم، أو قتلوا فيها عبر »غزوات وافدة«، أو أنهم هجروا من أو قتلوا في بعض مناطق الجبل دون أن يهتم أحد بمصالحتهم أو بإعادتهم إلى حيث كانوا… وبينهم عشرات الألوف من أبناء الجنوب ممن كان هجّرهم الاحتلال الإسرائيلي »فالتجأوا« إلى بعض أهلهم في الضواحي يقاسمونهم الغرفة والرغيف، فلما هجروا من جديد ضاق بهم الرزق والوطن جميعاً.
ثم إن تلك الزيارة البتراء لغبطة البطريرك التي حرمت الجنوب المحرر من بركته، والتي تركت شيئاً من المرارة في نفوس الجنوبيين، لم تؤثر بالسلب على علاقة »المحررين« بعضهم بالبعض الآخر، على رغم الأعداد الهائلة من »المتعاونين« مع الاحتلال، ممن حوكموا وحكموا أحكاماً مخففة، مراعاة لظروف الاضطرار… فلم تحدث جريمة واحدة ذات طابع طائفي، ولم يهجّر واحد من قريته، بعد التحرير، بغض النظر عن دينه، وقد شهدت الدنيا جميعاً لقيادة »حزب الله« بالوطنية الصافية وبالحكمة ولمحازبيه ومناصريه بأنهم قدموا نموذجاً باهراً للوعي ونبذ الكيدية وتجنب الانزلاق إلى الانتقام بالتعصب.
يتصل بهذا ما أشرنا إليه محذرين من ارتفاع أصوات عديدة بالتمييز بين لبنان الامتيازات (أي الجبل) ولبنان الملحقات، أي »الأقضية الأربعة« بكل ما تحمله من ذكريات سوداء لأكثرية اللبنانيين… ولقد استهجن بعض هذه الأصوات أن يشارك أبناء الأطراف في حديث الانتخابات وقانونها والتقسيمات المحتملة.. كأن »الجبل« هو الناخب الأوحد في لبنان، والنائب الأوحد.
وبمعزل عن رأينا في »تظاهرة المليون« فإن أسوأ ما رافقها هو تلك الأصوات التي ارتفعت تندد »بأولئك الريفيين الذين جيء بهم من الشمال والبقاع والجنوب ليتظاهروا في قلب بيروت«، محاولين أن يؤثروا بكثرتهم العددية على قرار »النخبة« الجبلية التي لها وحدها حق القرار في كل أمر بدءاً من التمديد إلى الانتخابات وصولاً إلى القرار 1559 بكل مخاطره وتبعاته الثقيلة.
من هنا كان التحذير من النغمات النشاز التي ارتفعت، عبر الحديث عن القانون الجديد للانتخابات وتقسيماته، تهدد بتعطيل الانتخابات أو مقاطعتها أو الاندفاع إلى ما هو أبعد: التهديد بالعصيان المدني، ومنع إجراء الانتخابات مما يطلق مناخاً انقلابياً في البلاد، وهو التعبير المهذب للحرب الأهلية.
ومع أننا كنا قد جهرنا في »السفير« بالاعتراض على التمديد قبل كثيرين من هؤلاء، كما أننا قسونا بالنقد على رئيس الجمهورية لأنه وقد حظي بالتمديد لم يقم بالمبادرة التي كانت وما تزال مطلوبة منه، والتي أوحى »بيان الشكر« بعدما حظي بالجائزة الذهبية كأنه بصددها، إلا أن الوقوف عند حادثة التمديد الذي صار واقعاً، على كلفته سيزيد من التوترات الداخلية، خصوصاً وهو قد استخدم ذريعة للتدخل الدولي في الشؤون الداخلية كما ينص القرار 1559 بصراحة فجة.
وغني عن البيان أن ذلك القرار قد تجاوز حكاية الدستور والتمديد ليركز على ما من شأنه أن يفجر حروباً أهلية لا تنتهي في هذا الوطن الصغير، إن لم يتم التنبه لمخاطره ومحاصرتها بالوعي الوطني وبنهج للحكم (برعاية سوريا ومشاركتها الفعلية) يستدرك الكثير من الأخطاء، ويصحح في سلوكه السياسي بما يوفر المناخ الصحي لاستعادة الوحدة على قاعدة صلبة من الوعي بالمخاطر التي تتهدد الجميع، في الحكم والمعارضة، في المركز والملحقات، بغير تمييز.
بالمقابل، فليس مما يعزز المعارضة ويضفي عليها المشروعية السياسية الكاملة، أن تكون قضية حماية »حزب الله« وتحصينه في وجه القرار الدولي موضع خلاف، فيتحفظ عليها البعض، ثم يصمت عن إدراجها في الوثيقة كرمى لعيون وليد جنبلاط وللاستمرار تحت مظلته.
.. وأن يكون موضوع الوجود الفلسطيني في لبنان وتأمينه، والتعامل مع الذين لجأوا إليه بالاضطرار كبشر، فضلاً عن كونهم »إخوة« في الانتماء القومي، موضع خلاف بحيث يتوهم البعض كأن القرار الدولي، بعدائيته، هو الحل.

أما العلاقات اللبنانية السورية التي كانت في بعض جوانبها منطلق هذا الحوار فالحديث فيها يطول، ووليد جنبلاط الذي كان في موقع الحليف على امتداد ربع قرن أو يزيد، يعرف من ايجابياتها أكثر مما نعرف، كما يعرف الكثير من سلبياتها التي لا نتجاوز ان قلنا انه بين من سعى، ولعله ما زال يسعى، لمعالجتها، حتى وإن كان اسلوب العلاج موضع نقاش.
يعرف وليد جنبلاط، بالتأكيد وأكثر مما نعرف، ان هذه العلاقات كما الوحدة الوطنية تعالج من داخلها، لا من خارجها،
وهو يعرف، كما نعرف، ان سوريا تعيش ظروفاً قاسية تحت الحصار والتهديد والضغوط التي تطاولها من جهاتها جميعاً… وها ان ايدي الاعتداءات الإسرائيلية بدأت تطالها في عاصمتها دمشق في محاولة لإجبارها على فك ارتباطها بالقضية الفلسطينية، وكذلك لإجبارها على فك ارتباطها بلبنان عموماً، وتقديم عربون الطاعة ممثلاً برأس »حزب الله«، قبل الحديث عن علاقتها بالحكم وشخوصه.
ويعرف بخبرته الطويلة، وبتراث العمل الوطني، ان سوريا المطمئنة إلى خاصرتها اللبنانية تتصرف براحة وبحرص وباطمئنان، وأن الثقة هي اساس العلاقة معها. وعنده ما يشهد بأن الثقة كانت على امتداد عقدين من الزمن، وأكثر، قاعدة علاقته بدمشق، فأعطته وأعطتها كثيراً.. وانها تفضل ان يقال لها، لا ان يقال عنها، وأن تسمع مباشرة لا بالواسطة.
ويعرف ان وجوه الخلل تُصحح بالاتصال والحوار المباشر لا عبر الاعلام.
ولقد تجلى وعي وليد جنبلاط، إلى جانب وطنيته، في موقفه المبدئي من حرب التدخل الأجنبي، وقد تعارض فيه مع حلفائه الجدد، وما زال هذا التعارض قائماً.
يمكن الاستطراد هنا للقول ان العروبة، كانتماء، في محنة.
ومن الظلم للعروبة ان تنسب إليها أخطاء الانظمة، فيجري التنصل منها أو الخروج عليها لأن هذا النظام أو ذاك قد اخطأ التصرف أو سلك مسلك الطغاة، كصدام حسين، أو انحرف كما معمر القذافي لينال الرضى الأميركي.
ان العروبة هي العروبة. هي طريق المستقبل. هي الخلاص. هي منهج التحرر من التبعية للأجنبي، وهي ضمانة الوحدة الوطنية في لبنان كما في أي قطر عربي آخر، هي تجاوز الطائفية والمذهبية، وهي شهادة جدارة لهذه الأمة بالحرص المطلق على كل عناصرها، لأي دين أو لأية طائفة انتموا.
والعروبة سيرة نضال مفتوح على الغد. وكما علينا مواجهة الهجمات عليها من الخارج، فإن علينا حمايتها من أخطاء الداخل، بتوكيد الانتماء إليها هوية ومصيراً والدفاع عنها، ضد بعض أهلها، إذا لزم الأمر.
وبين مزايا وليد جنبلاط المعززة بالميراث النضالي لوالده الشهيد كمال جنبلاط أنه بقي على إيمانه بعروبته، وأنه ظل يتذكر لسوريا دورها القتالي إلى جانبه ومعه كل الفلسطينيين في حرب الدفاع عن عروبة لبنان.
ونحب ان نفترض ان بعض خلافه مع سوريا ينبع من حرص بالغ على عروبة لبنان التي بقدر ما تتكامل بعروبة سوريا فإنها أيضاً ضمانة لها.
وإذا كان ثمة من نقاش تمادى فتحول إلى خلاف فهو على الاسلوب وعلى إطار الحوار، ولا نفترض انه يتصل بالأساس، أي الجوهر.
لذلك افترضنا، أو لعلنا تسرعنا في الافتراض، ان »فتح الباب« مجدداً، هو مدخل إلى حوار صحي وضروري للجميع.. وضروري للعروبة وتحصينها في لبنان وسوريا معاً.
وهذا التحصين واجب وطني قومي اليوم أكثر مما كان في أي يوم مضى.. خصوصاً ان القرار 1559 هو في قراءتنا بعض الحرب على عروبة لبنان وسوريا، وهو بتوقيته كما بمضمونه الذي يتجاوز التمديد، يتصل عضوياً بما يدبره الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين على يد السفاح شارون وطغمته، وما »ينجزه« الاحتلال الأميركي للعراق من تفكيك لبنية البلاد وشعبها والذي اوضح بعض جوانبه الحاكم الأردني بحديثه عن »الهلال الشيعي«.
ومع التقدير لوليد جنبلاط لا بد من لفته إلى ان »الحلف الثلاثي« الذي قام سنة 1968 أي بعد سنة واحدة من هزيمة العرب بقيادة جمال عبد الناصر في المواجهة مع إسرائيل، المعززة بالغرب كله وإن بقيادة أميركية، لم يكن لحظة انتصار للديموقراطية، بل كان إيذاناً بمباشرة المحاولة الجدية لضرب عروبة لبنان، وكان الشرارة الأولى للحرب الأهلية التي انفجرت بعد ذلك بسبع سنوات عجاف، والتي سرعان ما امتدت نارها إلى كل العرب والتي استخدم دخانها للتغطية على »زيارة« السادات التي انجبت معاهدة الصلح الأولى للعدو الإسرائيلي مع أكبر دولة عربية، والتي ما زلنا نعيش في اسر تداعياتها حتى اليوم.
وكلي ثقة بأن وليد جنبلاط سيكون بين العاملين لحماية العروبة، ولو بنقد الاخطاء في الممارسة على صعيد العلاقات اللبنانية السورية.
ولقد سبق للقيادة السورية، أكثر من مرة، أن اعترفت بوجود أخطاء في الممارسة تشوّه العلاقات الأخوية وتؤذيها، كما أكدت ان ليس من مفسد في سوريا إلا له شريك في لبنان وبالعكس.
وبالتأكيد فإن الحوار، لا القطع ولا القطيعة، هو السبيل إلى التصحيح، وإلى استنقاذ هذه العلاقة والطموح إلى جعلها نموذجاً يحتذى بين سائر الدول العربية.
وفي الختام تحية لمن بادر إلى الارتقاء بالجدل إلى مستوى الحوار الذي نفترض أنه يستهدف التقدم إلى الأفضل لا التذرع بالأخطاء من أجل القطيعة.
… وعسى هذا الحوار ينفع في كشح بعض الغيوم السوداء التي تكاد تسد الطريق.
ودمت لصديقك

Exit mobile version