طلال سلمان

رحيـل ريشـة مبدعـة للكبـار والصغـار: أحمـد حجـازي

لم تعطِ الحياة أحمد حجازي كل ما طلب،ولكنه أعطى حياة الآخرين أقصى ما يستطيع ان يعطيهم وبغير طلب: جعلهم يبتسمون بل ويضحكون من هفواتهم ومن مباذلهم ويشعرون بانهم يستطيعون، لو انهم أرادوا، ان يكونوا أفضل.
ولقد أحب هذا الولد الفقير الوافد من طنطا إلى القاهرة في بداية الخمسينيات ليدرس الفنون الجميلة ان الكاريكاتور يسكن دمه، خصوصاً انه كان يتابع ـ كقارئ ـ رسوم «عبد السميع» في روز اليوسف قبل ان يلتقي «أستاذ الكل» حسن فؤاد الذي شجعه ورعاه وأقنعه بأنه يستطيع ان يضيف إلى ما يقدمه عبد السميع لأنه يملك ان يجعل قارئه يضحك من نفسه فيحبها أكثر.
من «دار التحرير» إلى «روز اليوسف» حيث بدأ رحلة اكتشاف نفسه واكتشاف الآخرين، وعندها أحدث النقلة النوعية التي كان يفكر فيها ثم يتردد خوفاً من رفض المبدأ: انه حين يسخر من عيوب المجتمع، بنسائه ورجاله، ومن البيروقراطية والبلادة، ومن التخلف وادعاء العجز، فإنه إنما يحرض الجميع على الخطأ والكسل والمباهاة بما لا يعرف حتى لا يتهم بالجهل.
ولقد وجد أحمد حجازي في «روز اليوسف» كل من يحتاج: رعاية فاطمة اليوسف وتشجيع إحسان عبد القدوس والتتلمذ على يدي صلاح جاهين الذي رسم الشعر وجعل الكاريكاتور قصائد. ثم تكامل طابور المجندين لإبداع الفن الذي كان يشكو من برودة الترجمة لمجتمعات أخرى لها مذاق مختلف في النكتة، ولها مواضيع مختلفة تماماً لسخريتهم.
وهكذا بدأ يغرف من الشارع: الشرطي الذي يمسح المخالفة بسيكارة رشوة، والموظف الذي يمتهن المواطن الطبيعي ويتذلل أمام صاحب النفوذ والثروة، والشحاذ الذي يخفي ثروته ويمد يده بالسؤال كنوع من الشطارة، والمأمور الذي يحقر المواطن.
جاء أحمد حجازي بقاع المجتمع إلى صفحات المجلة، وأسهم مع فرسان جيله، جاهين ورجائي وبهجت وجورج، في تأصيل فن الكاريكاتور في مصر وجعله مادة صحافية لها احترامها ومكانها المميز في الصحف والمجلات، تماماً كمقالات رؤساء التحرير والصحافيين المميزين.
كانوا طابوراً من المقائلين بالريشة الساحرة والفكرة الباهرة ببساطتها، فأضحكوا الناس من أنفسهم، من أخطائهم ومباذلهم، من جبنهم وخوفهم من السلطة…
وصاروا كتيبة مقاتلة في خندق ثورة 23 يوليو وقائدها جمال عبد الناصر.. وربما لهذا لم يستطع حجازي ان يرسم مرة في عهد أنور السادات، فهو لا يتقن النكتة السوداء، وما سوف يقوله ممنوع…
ربما كان ذلك بين الأسباب التي دفعت صاحب الريشة المميزة إلى الاندفاع نحو الأطفال ليرسم لهم ما يساعدهم على حب الحياة، بمصاعبها، وعلى التطلع إلى الأفضل نتيجة تسخيف المبتذل والرخيص من العادات وأنماط السلوك… وبهذا المعنى فقد أسهم مع بهاجيجو في تأسيس مجلة «ماجد» للأطفال التي أصدرتها جريدة «الاتحاد» في أبو ظبي، قبل ان تسود «قيم النفط» وسائر ضروب الاستهلاك التي تجعل الأطفال سلعاً أو مجرد مشترين للسلع بعد خداعهم بما تقدمه لهم.
وعندما سدت تفاهة السياسة الشارع، وتهاوى النظام في الفساد، ورحل المسؤولون الذين يؤمنون بأن النقد يزيدهم كبراً ولا يقزمهم، اعتصم أحمد حجازي في غرفته، لا يخرج إلا لماماً ولأمر مهم، يرسم ويرسم ويرسم… للأطفال أساساً، الذين كان يرى فيهم المستقبل، أو يحاول ان يستنقذ بهم المستقبل، في حين يستغل كل فرصة سانحة للتشهير بالانحراف السياسي والخلقي، ولإدانة التعامل مع العدو الإسرائيلي وسائر الأعداء والسياسة الأميركية الطليعة والقيادة.
كان يبقى في بيته أياماً لا يخرج منه ولا يسمح إلا للقلة القليلة من الأصدقاء الذين ظل يرى فيهم شبابه وطموحاته ورفاق سلاحه من أجل التغيير… خصوصاً وقد غاب بالقهر أو غيب القدر بعض أساتذته وزملائه من الفرسان وأخطرهم صلاح جاهين.
وحين التقيته، آخر مرة، في شقته الموصدة بالأقفال في القاهرة، كان على «بهاجيجو» ان يردد كلمة السر ألف مرة قبل ان يفتح حجازي الباب، بعدما أتم عملية التدقيق والفحص عبر المنظار.
أمس، رحل أحمد حجازي الذي أعطى الكبار والصغار في مصر وفي أنحاء أخرى من الوطن العربي فناً جميلاً. وحاول ان يقنع الأطفال بصورة خاصة بان الحياة نعمة عظمى نستحقها فعلاً وتستحق منا ان نعطيها.
رحل أحمد حجازي لكنه ترك بصمته الجميلة على جيلين أو ثلاثة أجيال من أبناء مصر والوطن العربي، فزاد من تذوقهم جمال الحياة كما عزز فيهم إرادة رفض الغلط والفساد والزور والتزوير وسائر ما ينتجه الطغيان.
رحم الله هذه الكوكبة من المبدعين.

Exit mobile version