ذات زمن مضى، كانت الصحافة في لبنان هي هي صحافة العرب..
كان للعرب، آنذاك، أي في النصف الثاني من الخمسينات، قائد سياسي عظيم هو جمال عبد الناصر، ودولة ـ قائدة “تصون ولا تهدد، تحمي ولا تبدد”.. هي مصر التي بنت مع سوريا شكري القوتلي اول دولة للوحدة العربية: الجمهورية العربية المتحدة.
..وكانت للعرب قضاياهم المقدسة وفي طليعتها قضية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وقضية الوحدة بين دولهم، وقد رأوا فيها الطريق الطبيعي لتحرير فلسطين، وكذلك تأكيد المنعة والتقدم نحو بناء مجتمع الكفاية والعدل.
لم يكن التلفزيون قد اكتسح فضاءات العالم، آنذاك. كانت الاذاعات هي وسيلة المعرفة ومصدر الاخبار عن الداخل، بداية، ثم عن الخارج عموماً، وبالذات عن الوطن العربي وقلبه آنذاك مصر ومعها سوريا.
كانت الصحف في لبنان مؤسسات فردية، متعددة الاتجاهات والولاءات، ضعيفة المواد، محلية الاهتمامات، ومحددة التوزيع..
كذلك كان حال الصحافة في سائر الاقطار العربية، الا حيث اممتها الدولة، تاركة لها هامشاً واسعاً لا سيما في الثقافة والاجتماع، كما كان الحال في مصر عبد الناصر.. وان كان كتابها الكبار (محمد حسنين هيكل، مصطفى وعلي امين، واحمد بهاء الدين قد استطاعوا تجاوز الرقابة بوعي وحرص، ومعهم أدباءها المخلدون: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، صلاح عبد الصبور، احمد عبد المعطي حجازي، والمبدع في فن الكاريكاتور بهجت عثمان (الشهير بهاجيجو) ومعه صلاح جاهين شاعر الرباعية والفنان في مختلف المجالات، واحمد حجازي (المعتصم في بيته) وجورج بهجوري وغيرهم كثير.
… وعندما احتدمت المواجهة بين عبد الناصر وانظمة الرجعية العربية، بقيادة السعودية كان شعبها وبعض اسرتها الحاكمة يدينون بالعروبة، وقد خرج منهم اربعة امراء على نظامهم والتحقوا بعبد الناصر ايمانا بقيادته.
كان طبيعيا أن تنتقل المعركة إلى الاعلام، وان تدخل قاهرة عبد الناصر ورياض آل سعود ساحة “الحرب في بيروت”، مع فارق واضح: أن للأولى وقائدها “قضية مقدسة” تتصل بالغد العربي الافضل، وان الثانية القابعة في الجاهلية تدافع عن الفساد، وتذهب في دفع التهمة إلى حد التآمر لقتل جمال عبد الناصر، اذ قدمت مليون ليرة ذهبية لرئيس جهاز الاستخبارات في دمشق، عبد الحميد السراج، ليتولى الاعداد لهذه الجريمة.. فما كان منه الا أن كشفها امام الرأي العام العربي، وبالوثائق…
وبالعودة إلى اساس الموضوع: الصحافة في لبنان..
بعد الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر في 28 ايلول 1970، تبدلت الاحوال كلية: غابت القاهرة عن المشهد، وجاءت السعودية وسائر دول النفط (والغاز في ما بعد).. لكن بلا قضية: لا القومية العربية، ولا الوحدة ولا تحرير فلسطين، ولا الاشتراكية ورايات التقدم الاجتماعي..
ثم كان أن طغى التلفزيون، لا سيما بعد تلوينه..
وتم تغييب القضية، وفتح الباب امام الكيانية التي تستدعي الطائفية وتستقوي بها.. ثم توالت حروب الانظمة وبينها الحروب العربية ـ العربية (حرب العراق ضد ايران) وقد دامت سبع سنوات عجاف، غزوة صدام حسين الكويت التي استنفرت الغرب وبعض دول العرب، ثم الاحتلال الاميركي للعراق الذي دمر ثاني اقوى دولة عربية.. وبعدها جاء تفجير سوريا بحرب ما تزال مفتوحة.
ثم جاء ما لا يقاوم: الانترنت ومشتقاته، وبينها ما يُغني عن الصحافة المكتوبة والراديو والتلفزيون.. اذ أن المبتكرات الجديدة التي صار ممكنا تضمينها هاتفك الخليوي تقدم لك كل ما ينتجه العقل البشري من علوم، وأرشيف الثقافة والفنون الحديثة، وافلام الجنس، ومسلسلات للأطفال والمرأة الخ..
وتراجعت الصحافة توزيعاً وتأثيراً، وخسرت دورها الريادي امام هذا الزحف الذي يعكس بعض ذرى التقدم الانساني.
تراجع البيع، وتراجعت الاشتراكات والاعلانات، حتى باتت الصحافة “تجارة خاسرة”، خصوصا بعدما اندثر الصراع بالأفكار (تقدمية ورجعية) وتم تناسي القضايا المقدسة بعنوان فلسطين وتحرير سائر الارض العربية المحتلة، والصراع ضد الدكتاتوريات العربية الخ..
صارت الصحافة محلية، وفقدت مساحة توزيعها الواسعة التي كانت تشمل اسواقا عربية عدة، كما فقدت مصادر دخلها الشرعية (الاعلانات)..
صارت الصحيفة الالكترونية الاكثر حداثة (الخليوي) في جيب المواطنين، رجالاً ونساء، فتية وصبايا يتبادلون الغزل ومشتقاته، وحتى الاطفال وجدوا في الخليوي وسيلة يمكنهم اللعب بها ومعها..
وصار الصحافيون شهوداً، مجرد شهود على زمن مضى، يكفيهم شرفاً أن يكتبوا مذكراتهم عن ايام الورق والحبر والسبقات الصحافية التي انجزوها في زمن الاقلام المضيئة والسبق الصحافي والصورة التي تستحق صدر الصفحة الأولى.
رحم الله ايام الصحافة والكتابة بالحبر او حتى بالدم!
وللحديث بقية..