طلال سلمان

رحلة تتبع لآثار الأقدام الهمجية

لا حاجة الى دليل سياسي، فآثار اقدام الوحش الاسرائيلي ترسم الحدود بين الطوائف ملغية الوطن … ولقد شارك في الغائه الجميع: المجتمع الدولي و الحكومة المحلية و العرب ، فضلاً عن اسرائيل.

تتجه من البقاع الشمالي الى الجنوب عبر البقاع الغربي فتدلك مواقع القصف على الهوية الطائفية للقرى والبلدات والجسور والمصانع والمزارع، الى الخريطة التي اعتمدتها اسرائيل لتجعل حربها عملية جراحية ضد طائفة بالذات، مع اعتذارها عن ازعاج الطوائف الاخرى بالدوي وببعض الاعطال في الطرقات التي لا بد من قطعها كي يتكامل الحصار بالنار فيعزل الطائفة الملعونة حتى يتم تأديبها فترحل او تتوب.

كل الاخبار السياسية محفورة في الأرض: كلما اقتربت من الحدود مع سوريا تزايدات الخنادق الناتجة عن الصواريخ الاسرائيلية والسيارات المحروقة، ثم تتناقص حتى تكاد تختفي حين تنعطف مع الطريق التي كانت تربط مع فلسطين امتداداً الى مصر وما بعدها والتي تنقطع عند نقطة معينة فتقطع صلات الرحم ما بينك وبين أهلك في الشرق، كما في جنوب الجنوب.

***

هنا مرج الزهور وحكايا المبعدين الذين طردهم الاحتلال الاسرائيلي من أرضهم في العام …1993 كم واحد منهم الآن سبق الدكتور الرنتيسي الى الشهادة، وكم واحد ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

قال بعض المسؤولين في بيروت يومذاك: انهم يرفضون ان يتحول لبنان الى مكب للنفايات!

من يرَ في المجاهدين في الأرض الفلسطينية نفايات ، لن يكون ارحم مع المجاهدين في أرضه، خصوصاً انهم من القوة بحيث لا يستطيع ان يرميهم في البحر.

هذه مقاهي الحاصباني التي كانت تضج بليالي الفرح والاحتفالات بالإنجاز خامدة، ساكنة، تلعب فيها الريح وان ظل النهر المحجوزة مياهه لاستيلاد شلالات تصدح بحب الحياة والقدرة على استيلادها من قلب الصعوبة، يجري بمياهه القليلة الى مصبها لدى من يكره لنا الحياة.

تقطع كوكبا في اتجاه ابل السقي، ويطالعك الفندق الذي كان اشبه بواحة في تلك المنطقة التي خضعت بعد التحرير لشيء من التقشف في ممارسة الفرح.

هنا كان مركز اليونيفيل الذي انتفت إليه الحاجة بعد التحرير، والذي سيعود قريباً(؟) بجنود أكثر صرامة من اولئك الفيدجيين الطيبين، او اولئك الهنود المتسامحين.

***

تتباطأ حركة السيارة وهي تقترب من الدردارة حيث صار منبع الشعر ومسرى الغزل ومدار الهوى والشباب والأمل المنشود بين أهداف القصف الهمجي الذي قتل الفراشات والاحلام واشجار الصفصاف والورد البري الذي كان يعد نفسه لهدايا العشاق.

يهتف بك رفيق الرحلة: هنا في هذا السهل الذي تتنازع اسمه الخيام مع مرجعيون مقبرة دبابات الميركافا. لقد طلعوا على الغزاة من حضن امهم الأرض فأصلوهم نيران صواريخهم، وكانت المفاجأة مذهلة: ذاب فولاذ الدبابات واكمل كل صاروخ طريقه مخترقاً الصلب الى قائد الدبابة وعسكره فأحرقهم. لا نعرف عدد الدبابات التي دمرت بالضبط، على دفعات، لان العدو استمات ودفع ثمناً هائلاً من حياة ضباطه وجنوده حتى سحب جثث مفخرته الحربية في عالم الدبابات.

نصعد مع الطريق الى الخيام وسط اعمدة الكهرباء والهاتف المرمية كأشلاء وأسلاكها منثورة كشعر الثكالى… نحاول تجنب الحفر بل الخنادق التي احدثتها القذائف والصواريخ التي انهمرت مطراً على هذه البلدة التي سبق ان دمرت في العام ,1978 أول مرة، واعيد بناؤها، ثم دمرت ثانية وثالثة، حتى جاء النصر في العام ألفين، وقرر أهلها ان يعودوا ليجددوها كما يليق بصمودها.

نتوغل وسط الركام مذهولين: البيوت اشلاء مقطعة، بعضها حطام منثور على الأرض، كتل اسمنتية ونتف مما كانت أبوابا ونوافذ وصور الزفاف والعائلة في تدرجها نحو الاكتمال، وشهادات الابناء والبنات وكرّاسات العشق ممزقة بقذائف كارهي الحياة

تتعرف بالكاد الى بيوت الاصدقاء من خلال دواوين الشعر المتطايرة صفحاتها مع الريح او من خلال موقعها من العين او من مركز عامل او دار البلدية او المسجد الذي كنت تعترض على موقعه بمكبرات الصوت المرشومة على سطحه حتى تصل بالأذان الى المؤمنين في… مصر المحروسة.

تفاجأ بالناس ينبتون كأنما من باطن الأرض. لقد جاء الجميع، ليس فقط ليتفقدوا ما ألحقه بهم الوحش الاسرائيلي من أضرار، بل ليباشروا رفع الانقاض، وليقرروا بأعلى الصوت انها أرضهم، انها منازلهم، انهم هنا، أهل الأرض باقون لها ومعها، لن يتركوها ولن تتركهم، فهم مثل صخورها، مثل ترابها، منها وفيها وبها ولها.

تجول بين الأعمار المقصوفة والاشجار التي احرقها الحقد، وتفاجئك عبر واحدة من النوافذ صبية تنسق الورود في مزهرية ثم لا تجد لها موقعاً في البيت المبعوجة جدرانه والمتهالك سطحه إلا نافذة محطمة الزجاج فتركزها على حافتها ليكون شميم الورد مشاعاً.

تستبد بك اللهفة لان ترى معتقل الخيام فينصحك صديقك بألا تذهب حتى لا يتعاظم حزنك: لقد سووه بالأرض! قصفوه مئات المرات، آلاف المرات، كانوا يريدون ان يدمروه تماماً حتى لا يظل شاهداً على عنصريتهم وكراهيتهم للناس، كل الناس، ووحشيتهم في التعامل مع المعتقلين. لقد قتلوا الشاهد، قتلوا التاريخ. أليس التاريخ أعدى اعدائهم؟

***

تستأنف رحلتك على التخوم بين الطوائف: تمر بالقليعة فتكاد لا تجد أثراً للمعارك الهائلة التي دارت على بابها… اما مرجعيون فتحمل بعض اوسمة الفخار على صدرها، قبل ان تبلغ الثكنة حيث يهجع العار مكللاً بأوامر الانسحاب الرسمي!

تكمل الطريق وقد اثقلك هم الداخل… تعبر من تحت الجسور المدمرة، او الى جانبها، وقد تشق النهر أحياناً. ها هي صيدا التي عزلت عن أهلها في الجنوب كما عن عاصمتها وعن محيطها. في حالات معينة كان الوصول إليها رحلة طويلة تخترق الشوف كله الى جزين صعوداً ثم تنزل مع الدرب عبر كفرفالوس ذات التاريخ لتبلغها.

الناعمة هدف عسكري دائم.. اما جوارها فآمن.

بعد خلدة تصبح الطريق هي الحد الفاصل بين دار الحرب ودار السلام: الى يسارك جهنم التدمير والقتل وتقطيع الأوصال وتهديم البنايات على رؤوس قاطنيها. اما الى يمينك فتمضي الحياة بطيئة، هادئة، لولا دوي الغارات التي تستهدف الجيران المحاصرين بالنار .

انها حرب مرسومة خططها بجغرافيا الانتشار المذهبي.

انها حرب تستهدف الغد وليس اليوم فقط.

لقد رسمت اسرائيل، بالنار، على الأرض اللبنانية اطار الفتنة التي تريدها استكمالا لحربها: ليس اللبنانيون اعداءها، بل بعضهم فقط، البعض ليس عدو اسرائيل وحدها بل هو عدو سائر اللبنانيين أساساً.. وعليهم ان يدجنوه، وان يجردوه من سلاحه الذي يتسبب في تدمير البلاد على رؤوس الآخرين من أهلها، الذين لا يريدون الحرب، ولا يريدون السلاح، ولا يريدون المقاومة، بل يريدون ان يعيشوا حياتهم بسلام مع هذا الجار الذي لا يريد لهم إلا الخير!

حاصر حصارك: محمد جاسم الصقر

لم استغرب ولم تأخذني الدهشة حين هتف محمد جاسم الصقر: أنا عند المصنع، في طريقي الى بيروت. لم اقبل ان آتي عن الطريق المرسومة للوصول الى لبنان. استأجرت طائرة خاصة الى دمشق وها أنا اكمل رحلتي الى بيروت بالسيارة. لا اقول انني جئت بصفتي الرئيس الدوري للبرلمان العربي، للتضامن. كل العرب محاصرون بحصار لبنان.

وصل ابو عبد الله الى النواب المعتصمين في مجلسهم، فلقي ما يستحق من الترحيب، خصوصاً ان المتضامنين من البرلمانيين العرب كانوا قلة… لأن المنتخبين، فعلاً، من بين هؤلاء الذين تنيبهم الحكومات او تبدلهم بغيرهم من الأكثر ولاء، هم القلة القليلة من نواب هذا الزمان الأغبر.

الكثرة الكاثرة من النواب المنتخبين فعلاً هم في فلسطين، لكن الديموقراطية الاميركية في اسرائيل لم تتحمل حقهم في تمثيل شعبهم، وهكذا بادرت الى اعتقالهم والزج بهم في المعتقلات، يتقدمهم رئيس المجلس التشريعي المنتخب ديموقراطياً بإشراف اميركي مباشر.

تحية إلى هذا الفارس العربي الذي لم تشغله الثروة عن ايمانه بعروبته، ولم يأخذه جاه المناصب بعيداً عن التزامه بالقضايا العادلة.

صحيح ان سنونوة واحدة لا تصنع ربيعاً، لكنها تؤكد الاحتمال.

من أقوال نسمة

قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:

تنتصر على الحرب بالحب: حب الأرض، حب البيت، حب الناس.

للناس جميعاً صورة المحب. وعندك ما يكفي للناس جميعاً، فلا تخف على حبيبك غائباً او حاضراً. الحب مثل الأرض، لكن ربيعه دائم.

Exit mobile version