طلال سلمان

رام الله وطن

ليست هي الحرب الأولى، ليست هي الحرب الأخيرة. لكنها، أخيراً، الحرب، وعلينا أن نعرِّفها باسمها الصحيح: حرب استقلال فلسطين.
النصر صعب، بعيد المنال، يجيء من البعيد البعيد، مرفوعاً فوق أرواح الشهداء، لكن الهزيمة مستحيلة. الأرض لمن وهبها اليوم والغد ونور العين فبقي فيها وبقيت له. قد يهزم جيل. قد يهزم جيلان، ثلاثة، أربعة، لكن الحرب ستظل قائمة ومفتوحة. قد يضيق ميدانها يوماً، ولكنه سيعود فيتسع باتساع هذه الأرض وأهلها الذين مهما تاهوا عن أسمائهم وهوياتهم فلسوف يعودون إليها، أو يعادون بقوة النبذ والتحقير وتهمة الإرهاب. ولسوف تتحدد الأهداف بمزيد من الدقة، ويتكامل الوعي بطبيعة الصراع ومواقع أطرافه، الأصليين والفرعيين، الحلفاء القلة بينهم والخصوم وهم الكثرة الكاثرة.
لم يكن الفلسطيني مقاتلاً كما اليوم. لم يكن العربي عموماً على وعي بقدراته (ولو معطلة) وثرواته (ولو منهوبة) وموانع حركته التي تفصله بوهم المصلحة الخاصة وسراب الأمن الذاتي عن أخيه رفيق سلاحه شريكه في مستقبله كما تثبت له بالملموس هذه الانتفاضة التي حوّلها الرعب الإسرائيلي بجنون القتل اليومي إلى حرب استقلال.
ورام الله ليست الآن مدينة في فلسطين. إنها تسكن وجداننا ومآقي العيون. إنها تنثر دمها على عواصمنا ومدننا فتعطينا شرف الانتساب إليها. إنها بمساحة الوطن المحاصَر والمحصور بالأطماع والعجز، بكل رجاله ونسائه وأطفاله، بكل انكساراته وتخلفه، بكل ذكريات المواجهة والنصر بالمقاومة، بكل الشقاء والفقر والقهر النظامي.
من يرى نفسه خارج رام الله هو خارج الوطن.
ليس النصر شرطاً لدخول المعركة، وليس الهرب من ميدانها طريقاً إلى النجاة. الهزيمة أن تعلن ىأسك من نفسك بينما عدوك خائف منك حتى الموت، يأخذه رعبه الى سحق الأطفال بالدبابات واغتيال النساء والشيوخ وأكواخ اللجوء بالمدافع واغتيال الرجال بالحوامات وأحدث القاذفات الأميركية.
* * *
مع كل فجر تتعاظم فلسطين وتتزايد قداسة أرضها ويتعملق شعبها، ولو مجرحة ومخذولة، وتتضاءل أسطورة إسرائيل ولو أسالت دماء الفلسطينيين أنهارا.
لا أحد خارج الحصار. كلنا نتفرج على موتنا، وكلنا نحتفل بالقيامة الجديدة.
واجه يأسك من ذاتك. إنك لن تنفع به إخوتك المحاصرين، ولن يُقبل منك كذريعة للاستسلام.
تحرك، افعل شيئاً، أخرج الى الشارع. أعط من دمك، أعط من مالك، اكسر خوفك. لا أحد خارج رام الله. إننا فيها. تلفحنا نيران قذائفهم، تهد جرافاتهم جدران غرف الخوف التي نداري فيها خجلنا من أنفسنا، من أبنائنا وأحفادنا. تمشي دباباتهم فوق صدورنا، وتترك جنازيرها آثارها على وجوهنا.
لكنها حرب خروجهم. كلما توغلوا فيها أكثر كانوا يعودون الى نقطة البداية.
لقد انفتحت سنة 1948، مجددا، في محاولة من أهل التاريخ لتصحيح مساره.
ماذا لو دمروا كل بيت؟ ماذا لو اعتقلوا ألفا، عشرة آلاف، مائة ألف، مليونا أو أكثر؟!
ماذا لو سحقت دباباتهم الورود وبراعم الشجر؟! هل سيستقيل الربيع أو يترك لهم الأرض ويرحل عنها؟!
لن يبقى عربي واحد خارج فلسطين، حتى لو أقيم بيننا وبينهم ألف سور، ممغنط أو مكهرب أو متفجر يقتل من يقترب منه.
فأما المبادرات فيقتلها انها تطرح كخيار وحيد، ليس لها بديل. لو أنه عرض يكلف رفضه حربا لفكرت اسرائيل مرتين أو أكثر، عرض العاجز لا يتعامل معه أحد بجدية.
قدر الفلسطينيين أن عليهم أن يقدموا، بدمائهم، البديل، ليفكوا الحصار عن القمة، ولكي يعطوا »المبادرة« ما تحتاجه من الجدية والقدرة على الفعل.
الأرض مصدر النصر، والوطن هو الشهادة.

Exit mobile version