طلال سلمان

رابين ثاني مفاوضات”الانتخابية”

عاد شبح إسحق رابين يظلل »المسيرة السلمية« ويضبط إيقاع الخطى المتعثرة على هذه الطريق الطويلة والمثخنة بالمطبات والألغام والعقد التاريخية الناسفة.
تهاوت الأوهام »العربية« التي أنعشها اغتيال »بطل السلام« في احتمال تبدل الطبيعة الإسرائيلية و»انتصار« التيار المتعب من الحرب على »المتطرفين« و»المتشددين« خصوصù وقد ضبطوا متلبسين بالجرم المشهود أمام أكبر تجمع شعبي وفي أعظم الأمكنة اتساعù: ميدان ملوك إسرائيل في تل أبيب.
لم تعمِّر أحلام اليقظة أكثر من شهرين، ثم عادت السياسة إلى سيرتها الأولى:
خَفَتَ بريق الوعد بالتغيير وتكشّف عن سراب بيريزي خادع، وتلاشت آثار الصدمة، فإذا إسحق رابين ما يزال يقود، من قبره، إسرائيل، ويحد من »تحرر« الرغبة الأميركية في إنجاز انتخابي باهر عبر المفاوضات الصعبة مع السوريين تحت الرعاية بل المشاركة المباشرة لإدارة كلينتون المهددة الآن بهجوم شرس لم يتورع عن اقتحام غرفة النوم وحرم الأسرار العائلية،
نجح شمعون بيريز في تقديم نفسه عبر موجة من التعهدات الواعدة بالكثير، مطمئنù الى أن معاونيه وأركان »العهد الجديد« سيؤكدون استمرار المسيرة الرابينية بغير تعديل دراماتيكي،
وهكذا تبخرت احتمالات التغيير، واستكمل شمعون بيريز سحب عروضه »السلمية« من التداول بعدما أدت غرضها في تقديمه إلى العالم كخلف صالح، ولو من موقع مختلف، للسلف الصالح..
الصورة اليوم أن بيريز مبادر حيث كان إسحق رابين يبدو مترددù، وهو مهتم بالتاريخ بينما كان الآخر أكثر اهتمامù بالجغرافيا، وهو مستعد للتضحية بشيء من الضمانات الأمنية الاستثنائية من أجل المزيد من العلاقات الاقتصادية المفتوحة، وهي ضمانات أفعل وأبقى من محطات الإنذار المبكر، على سبيل المثال.
لكن ما لا يقوله بيريز يبادر إلى إعلانه وبنبرة المنتصر وزير خارجيته إيهود باراك، مؤكدù استمرار الحرب على طاولة المفاوضات، واستمراره »جنرالاً« مظفرù… فالدبلوماسية، كما تعلّمه تجربة زعيمه رابين، لا تفرض تغييرù في المنطق المستند إلى وقائع ثابتة في الأرض يعجز الخصم عن تغييرها.
لقد تبدلت المواقع فتقدم بيريز الثاني إلى موقع رابين الأول، لكن باراك الثاني الآن يطمح إلى استعادة القيادة، إذ يعتبرها من حقه كوريث شرعي لمعلمه رابين الذي لم يكن يخفي عدم إعجابه بفلسفة منافسه اللدود شمعون بيريز.
لا بأس إن داخ العرب داخل لعبة الكراسي الموسيقية الإسرائيلية، وإن تاه في ثناياها الأصدقاء الأميركيون الذين يساومون بطريقة بدائية على ثمن الصوت اليهودي المرجح في انتخاباتهم الرئاسية التي تجيء متزامنة مع انتخابات »السلام الإسرائيلي« في الخريف المقبل.
لقد خرقت واشنطن »حداد« بيريز لتطلب منه بإلحاح ألا يشغل نفسه بتقديم موعد الانتخابات الإسرائيلية، وأن يتفرغ للمفاوضات مع سوريا ولبنان (واستكمال الإجراءات المتفق عليها مع عرفات)، ليظل ممكنù عقد صفقة شاملة، فيثمر »السلام« الموعود تجديدù لكلينتون وتكريسù للزعامة الإسرائيلية الجديدة محققة حلم بيريز في دخول التاريخ من بابه الواسع…
لكن مقتضيات الانتخابات قد تنسف »السلام« بدل أن تحققه،
في المقابل، فإن مقتضيات »السلام« قد تفخخ العملية الانتخابية، وتحولها إلى كمين قاتل لشمعون بيريز وأحلامه حول »الشرق الأوسط الجديد«.
في كل الحالات يتوجب على العرب أن يدفعوا الفاتورتين معù: »السلام« عبر الانتخابات، أو الانتخابات عبر »السلام« الموعود،
أما في حال فشل العمليتين فإن الفاتورة الموحدة ستكون أثقل بكثير!
* * *
للمرة السابعة عشرة يجيء وارن كريستوفر إلى المنطقة ليتحقق من أمر واحد: هل تبدلت سوريا بما يكفي لتمرير مشروع السلام الإسرائيلي؟!
إنه ثابت اليقين من أن احتمالات التغيير داخل إسرائيل محدودة، إن لم تكن معدومة، برغم سقوط »بطلها« رابين مضرجù بدمائه،
بل إن اغتيال رابين يصبح ذريعة إضافية لاستحالة التغيير، ويكون على العرب أن يدفعوا »دية« القتيل وكأنهم عشيرة القاتل، مع أنهم تصرفوا على مستوى ملوكهم وسلاطينهم وكأنهم ذوو الفقيد!
ربما لهذا تدور المفاوضات الجديدة في مريلاند، قرب واشنطن، على نفسها ولا تتوفر أمامها فرص جدية للتقدم!
فالمنطق الأميركي يكاد يطالب سوريا بتبديل موقفها (ومطالبها الوطنية) لتعوّض إسرائيل خسارتها في رابين!
لكأن على العرب أن يدفعوا »فارق القيمة« بين »الزعيم« الإسرائيلي الراحل ومشروع الزعامة الجديدة ممثلاً بالثنائي بيريز باراك!
وإذا كان ياسر عرفات والملك حسين قد دفعا من بلديهما ما كفل تأمين وهج الزعامة لإسحق رابين، فلماذا تتردد دمشق (ومعها بيروت) في دفع ما يوفر عدة الزعامة لوريثه الضعيف شمعون بيريز؟!
وإذا لم يصبح بيريز قويù بما يكفي، فكيف يتحقق »السلام« المرتجى… عربيù؟!
لا تكفي المقامرات الصغيرة كالتي تورط فيها ذلك الشيخ الشارد في قطر، حتى لو عززتها تبرعات النظام التونسي برعاية المصالح، ونظام سلطان عُمان بالمكاتب التجارية،
المطلوب »خرق« من طبيعة دراماتيكية، يحدث تحولاً جذريù في المنطقة ويطلق »العملية السلمية« من إطارها المحدد والمحدود حتى الآن…
وليست بغير معنى هذه الاشارات المتكررة لإمكان إعادة صدام حسين إلى مسرح السياسة العربية، معززù الآن بدخل نفطي يكفي للمشاغبة وإن هو لم يوفر اللقمة والدواء لأطفال العراق المحاصرين بالمرض والجوع إضافة إلى الطغيان.
* * *
إسحق رابين لم يمت بعد، وما زال هو مَن يقود ويوجه السياسات في تل أبيب وفي واشنطن، كما في غير عاصمة عربية،
وليس حديث بيريز الجديد القديم عن القدس العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل إلا توكيدù لما لا يحتاج إلى توكيد من استمرار »الرابينية« حاكمةً في تل أبيب، ومتحكّمة في »العملية السلمية« المرشحة لأن تظل تدور على ذاتها حتى يثبت أن إسحق رابين قد مات حقù!
وهو موعد لا يبدو في الأفق المسدود بالغيوم الانتخابية الآن!

Exit mobile version