طلال سلمان

رائدة طه: “رجعوا” سنرجع يوماً

الفنانة الفلسطينية رائدة طه لا تخذلنا أبداً. تأتينا دائماً بفلسطينها الجميلة. فلسطين التي عرفناها سابقاً مع “ألاقي زيك فين يا علي” و”عائد إلى حيفا” و”80 درجة” ونعرفها الآن مع “شجرة التين” آخر أعمالها المسرحية التي قدمتها ليوم واحد على خشبة مسرح المدينة في الحمراء.

أخذتنا الحكاية. فلسطين ليست أرضاً فقط. هي بشر أيضاً. أناس من تراث وسلالات وقرى. القدس في الوسط وما حولها حركة لا تهدأ وصلاتٍ تُعقد، ورجال هائمون في حب وعمل ومهن. ناس من طينة التعب والعرق والكلام والسخرية أيضاً..

تحكي أو تروي او ترسم المشهد بلغة فلسطينية تتأرجح بين اللين والحسم. بين رجال يمارسون غاراتهم على زواج يليه زواج فبنين وبنات. هل هذه فلسطين؟ إنها فلسطين التي تلهج بناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً. إنها فلسطين الناهضة من شروش الأشجار وأعناق الأغصان. هنا حديقة مزدانة بالعطر والألوان والزيتون. هناك شجر يرفع أغصانه إلى سماء تراها، وهناك حقول فاكهة وخضار وشجرة تين. ما أحلاها. إنها موطن لذة وبهاء ثمر. هنا الناس يصحون. يتبارون في الرجولة والفحولة. وهنا نساء وجميلات، يصلحن هندام الأرض ويفتحن الأبواب لأشواق العائلة وأغصان الفناء.

امتلأت الدقائق الأولى بقراءة هويات أناس ملتصقين بالأرض والعرض والمسجد وبوابات السماء. ثم، ومن دون التواء لغوي، تولد شياطين القتل. القدس، عاصمة مجللة بالخوف والدموع. ذئاب العالم، يفلتون. ويتغير العالم.

إعتدنا أن نقرأ ونسمع بطولات فلسطينية، ومآس دموية، وغربة في بلاد “الأخوة الأعداء”. إعتدنا أن نترجم المأساة والحياة سياسة. لم نلحظ في المشهد المتنقل، أي بطولة فائضة. عشنا مع أناس، ظلوا بشراً بقامة الكرامة. وتواضع اللاجىء. لا سلاح ولا أناشيد باستثناء الخلاف على النشيد الوطني الفلسطيني.

انها حكاية حياة، أكثر من ان تكون نص قضية. القضية مشروحة. ولكن، من عرّفَنا على الناس. على البوابات. على الحقول، على الأشجار، على الصلوات، على المسجد العتيق، على النساء اللواتي.. والرجال الذين.. من عرفنا أن القدس كانت بأهلها وحكاياتهم ورجاءاتهم.. الى أن غاب الآذان عن الناس وصاروا بلا دفء.

أقول للسيدة رائدة طه: عندما اندلعت المأساة، لم أعرف كيف أصف الغياب.  تساءلت: كيف يعودون ومتى؟ هل تتفتح الصباحات برائحة البُن. من سيدُسُ في القهوة دموعاً. من يستعيد نسج حكايات مضت وناس هاجرت كالملائكة وارتحلت من اغصان الدار؟ كانت البوابات كاتمة الأسرار وفاضحة الخفايا وخطوط اللقاء. وتتفتح على دفء العناق وراحة البال. ها هي بعد ذلك، بوابات ترشح زيتاً، وأسماء الراحلين روايات يتم تداولها كآيات القرآن.

ندور حول القدس. نعتمر سماءها. نعفر ترابها. نقدّس بلذائذ قبابها وناسها وأطفالها. الخزن تستعيد الحكايات وتروي الشغف المقيم بألوان من رحلوا وما عادوا. رحلوا وعلى أكتافهم تعب القدس. نسجوا جراحهم على زمن لا يتوقف ولا يُغيّر معانيه ومنعطفاته وأخطاره.

مع الفنانة الرائعة رائدة طه نتذكر، عندما تثرثر زيتاً وليموناً وتيناً، وتدس قرابين الصلاة في مئذنة الروح. معها، نهيم في الماء، ونروي أحلاماً لم نحلمها، فيما القدس تقيّدت بأحزانها. هنا أيقونة لصليب شاهق، وتعب مصلوب، وقيامة مؤجلة. تقف الكلمات على شرفة الفراق ومفاجآت الارتحال وعنف الغرباء المدججين بسلاح مختص بالتصويب على المدنيين. نغمس اللقمة بالقهر والدم. هي زوادتنا حيث تشردنا. ننتظر صباحات مؤجلة ترقص في الأحزان كأننا في ذاكرة أعراس ماتت. مفيد إملاء الماضي على الحاضر. الحاضر ينتظر ولا تأتي من الماضي سوى بضعة دموع يابسة وأحلام مهزومة.. وحدها العصافير المجنونة داومت على أعشاشها. تسند الماضي والسماء بأجنحتها المحمية.

كان الفرار خلاصنا الناجع والمديد. نشهد فصول القتل والدم. يتجدد الصلب كل يوم. المسيح الفلسطيني اورث صليبه لشعبه. ترى، متى تأتي القيامة؟

نعود الى ساعة التجلي في الأداء المسرحي.

المسرح بلا نوافذ. الخشبة من روح. الحركة يدان تكمشان حكايات. اللغة تكرج وتتدفق. الناس يحضرون بأسمائهم: أبو.. أم.. أخو.. وسلالات من العائلات. كانت وحدها على الخشبة دافئة الحضور. خصبة المعاني. ثياب فرحة تطير بأجسام مختلفة. هنا مشى فلان.. تزوجهن وطلقهن. ثم تدحرجت ثرثرات نساء ينجبن، ثم ينجبن حتى العمر الأخير.

الراوية رائدة طه توقظ الزمن الماضي. تستحضر شخصياته الواحد تلو الثاني وهكذا دواليك. تُمسك بخيوط الماضي وتشبكه، فتعود الحياة، كما لو أنها الآن. انها لا تأخذك الى هناك. انها تأتي بالهناك الى هنا. تشترك معها. تصغي إليها. تسبقك في الانتقال من مشهد إلى نقيضه. تدس فيه حكايات تتوالد، ويختلط فيها التقليد والتجديد. التقليد راسخ. التجديد بطيء ويتأخر. كل الحكايات على قصرها، مديدة في الزمن الماضي. الزمن الماضي يُستعاد، يحضر، نشهد نحن اناساً، مروا كلهم من هنا وهناك. وكانوا سعداء على شقاء رحيم ومقيم.

تقف قليلاً. ثم تؤلف خطوات. تجيد رياضة التناسق، بين الكلمة والحركة. بين الحدث وبين الصوت. بين التعبير باللغة المحكية وحركات يدين تشيحان في كل الاتجاهات. نبرات عن تاريخ لا تمحوه الريح ولا أرجحية النسيان.

فيها هوى مديد. الدائرة الصغيرة التي حاكتها بخطواتها تتسع لوطن. رائع هذا الابداع. والجسم خفيف، كأنه يَرى ولا يُرى. هي في حركاتها ونبرات صوتها ومغنى لحنها الفلسطيني، هوى يمتد بين الخشبة/الوطن، وبين الوطن الحالك. لا عويل. لا صراخ. لا ثمالة. حكايات وناس وجدران وايقونات وحواكير وبساتين وفاكهة الأحلام.

غريبٌ، كيف أن الألم لم يكن موزعاً علينا. أمامنا مأساة تقارب الذاكرة وتهفو على حفافي الحزن الخفيف. تمر المآسي كأنها غيوم كالحة لا بكاء ولا عويل. حيث أن النكتة تفرض أن الحياة كانت ذات زمن، كشكولاً متجدداً. يحتضن تاريخاً يدب على إيقاع حدث فيه ملء الفرح. وُجدت فيه عتمة أحزان وأشواق لما ضاع وما زال. ما نُهب وما يُنهب في ليالي الحزن والطلقات.

كيف نقرأ فلسطين اليوم؟

مع رائدة طه، فلسطين حية ترزق. مهجورة عنوة. الذين غادروها، إما قتلوا وإما اجبروا، إما ماتوا في العراء العربي والدولي. لا حزن شاهقاً كليل مقيم. كشوق ممتنع. كعودة حلم يرابض على تخوم اليأس.

لم تبالغ أبداً. لم تسع الى جعل الحزن والبكاء والهرب، وسيلة لفهم الوجع الفلسطيني. الفلسطيني كائن غير هش أبداً. شأنه شأن الشواطئ. لا يضجر من الموج ولا من الماء ولا من العواصف. يعرف أنه يقيم في غيمة انتظار موسم العودة. كل أرضٍ غير فلسطين، مجرد يابسة. مجرد إلتباس.

الفلسطيني، جروحه غير غامضة. جرح كبير يتسع في الزمن والجسد والتاريخ، وقهر جهنمي عبري وعربي ودولي.

لم تسدل الستارة. كرجت كأنها تروي حكاية راقصة تتأرجح بين حكايات ومشاهد وأسماء وقيادات ومواقف.

تحدثت كأن شيئاً لم يكن. هناك دائماً في نصها، أسماء شتى، وامكنة شتى، وذكريات تدب على لغتها، كأنها تحدث الآن.. هي لم تنقلنا الى فلسطين. أتت بفلسطين إلينا. عرفنا كيف نبتسم ومتى ندمع.

الحديقة والسياج والأشجار والناس والكلمات حاضرة. القدس هي قوس السماء والأصوات والصلوات. هنا مقام، هناك مزار، هناك شتى الحكايات. القدس معها، وبنبرة حنجرتها، جسد برعاية الروح والحكايات.

لم تتعب رائدة طه أبداً. إستمعنا إليها، كأننا نتلقى وحياً. إننا نعرف بعض ما روته. ما نعرفه بلا روح ولا حروف ولا كلمات. أما ما قالته فهو سجادة للروح، ودعوة الى معاودة العودة. العودة بسالة وانتظار انتصار.

نِصاب النص نحن. لم نسدل الستارة. سنطبع نداء “ارجعوا”. بعدها. اندلعت الدموع. خفقت القلوب. احتل الأفق المكان، وافترشت الحكاية مقاعد المشاهدين. كان حزننا ملء حناجرنا، والأمل افترش فضاء المكان.

كان حزننا ناضجاً. عيوننا استضافت دموعاً متفائلة كأنها ابتسامات. أحزاننا باسلة. لها أجنحة تفك أسر البلاد.

لم يكن في المسرح ستارة. حافظت الخشبة على جوقة الصمت البليغ. صفقنا. انتصبت في المخيلة أحلام نتسلقها. استولينا على الحلم. وسنمنع اليأس. لن ندعه يستولي على حلم العودة.

اننا نليق بالحرية.

شكراً يا رائدة.

Exit mobile version