طلال سلمان

رئيس مرجعا

اختتم العماد إميل لحود »اليوم الانتخابي النظيف« بما يليق بموقعه ومسؤولياته كرئيس للجمهورية: توجه بالتهنئة إلى مَن سيفوزون معتبرا أن كل من سيدخل إلى الندوة البرلمانية سيكون ممثلاً لكل لبنان، ودعاهم إلى التعاون لإكمال بناء دولة القانون والمؤسسات، كما دعا جميع وسائل الاعلام إلى وقف الحملات الدعائية والإخبارية التي قد تُستغل للإضرار بمصلحة الوطن.
في الصباح كنا استمعنا إلى صوت »العسكري السابق« الذي طالما تشوّق إلى ممارسة حقه الديموقراطي كمواطن فيقترع، ولم تسنح له الفرصة إلا بعد أن ختم حياته الطويلة في الجيش وعاد مدنياً برتبة رئيس للجمهورية، فمارسه لأول مرة وانتخب مرشحه الأثير الذي صار برنامجه السياسي: خطاب القسم.
وفي المساء، جاء كلام رئيس الدولة الذي لا تأخذه عاطفته الشخصية بعيداً عن موجبات موقعه السامي، حيث لا يقبل لنفسه ولا يقبل من الآخرين تصويره خصما لأي طرف، كما لا يرضى أن يستغل بعض الأطراف موقعه لتصويره حليفا أو مناصرا لهم، بل هو مرجع الجميع، حامي الدستور ونظامه الديموقراطي ومؤسساته المجسدة لهذا النظام الجمهوري البرلماني.
كان اللبنانيون قد أثبتوا، خلال النهار الطويل والحافل بالإثارة، أنهم أرقى من طبقتهم السياسية، وأكثر إيمانا منها بالديموقراطية… فهم لم ينساقوا إلى حمأة الأحقاد والنكايات والمخادعات التي لجأت إليها »القيادات« و»الزعامات« للتعبئة والحشد.
كذلك فإنهم أثبتوا أنهم أكثر وعيا من أن يضللهم تدخل »الأجهزة«، وأكثر شجاعة من أن تخيفهم كمائن »الأشباح«.
تدفق الناخبون الى صناديق الاقتراع ملتزمين بأصول التنافس، مرجئين التعبير عن مشاعرهم الى ما بعد إعلان النتائج، برغم اعتراضاتهم الكثيرة التي تبدأ بقانون الانتخاب وتقسيماته العشوائية ولا تنتهي بتعليب اللوائح وتأمين »البواسط« والمحادل لاصحاب الحظوة من المرشحين.
لم يلعلع الرصاص، ولم يسقط القتلى والجرحى »فداء لعيني البيك«، ولم يأخذهم المال السياسي الى تزييف قناعاتهم، ولم تستدرجهم الحملات ذات الجذر الطائفي او المذهبي الى الاشتباك مع الذات، سواء بالمقاطعة او الاستنكاف او بالاندفاع الى تأييد المجنونين بالتطرف.
وإجمالا فإن مآخذهم على وجوه الخلل والنقص في نظامهم الديموقراطي لم تأخذ أيا منهم الى العمل على إلغاء الآخر، او الى تسفيه مبدأ الانتخاب، او الهرب الانتحاري الى المطالبة بنظام الحزب الواحد او الشخص الواحد، عدا عن المنطق الذي روج له ذات يوم ميشال عون من ان »الجيش هو الحل«.
ونعود الى كلام الرئيس لحود الذي تجاوز الوقائع الانتخابية ليتعامل مع نتائجها بمنطق »حامي الدستور« و»المرجع الاخير« للجميع.
وطبيعي ان يثير هذا الموقف المسؤول لرئيس الجمهورية ارتياحا عاما، إذ أنه يخرج »الدولة« من خانة المخاصمة والمحازبة لهذا الطرف او ذاك، ويعيدها الى موقعها الاصلي: دولة الجميع.
ذلك ان الحملات الاعلامية لم تكن تتبادلها قوى سياسية مختلفة، خارج اطار السلطة وفي حمى التنافس على الفوز بها. بينما السلطة تقف بعيدا عنها، لا تتورط فيها بالانحياز او بالخصومة… بل ان السلطة كانت قد سخرت اجهزتها الاعلامية (وغير الاعلامية) الرسمية لحرب قاسية ضد من تصنفهم »اعداء« وصلت الى حد التعريض بوطنيتهم، مستنفرة بذلك كل »جمهورهم« وحتى من كان محايدا الى إعلان اعتراضه على الاسلوب فضلا عن الهدف، وذلك بدافع الحرص على الدولة ومؤسساتها ومواقعها ذات الحصانة، وبالذات منها موقع رئيس الجمهورية.
لقد تسببت الحملات الاعلامية التي تجاوزت حدود الخصومة الى حد العمل على شطب او الغاء بعض المعارضين او المعترضين، في الاساءة الى صورة الدولة أساساً، والى سمعة لبنان بشعبه وطبقته السياسية التي يفترض انها تتداول الحكم، ونظامه الديموقراطي ومؤسساته التي تبدت وكأنها بغير دور او فاعلية، وانها من الهشاشة بحيث يستطيع تجاوزها اي نافذ، سواء من موقع السلطة او من موقع الاعتراض.
وانه لخبر طيب ان يعلن رئيس الجمهورية، الذي حاول بعض المنتفعين واصحاب الغرض استدراجه الى موقع الطرف، انه خارج هذا كله، وانه يقبل بكل من يختاره الناس ويتوجه إليه بالتهنئة بوصفه »ممثلا لكل لبنان«، داعياً من ثم الى وقف جميع الحملات الدعائية والاخبارية، وقد ثبت للبنانيين فعلا، المقيم منهم كما المغترب، انها »تضر بمصلحة الوطن«.
لعل الحماسة قد غلبت على خطاب الصباح، لكن المسؤولية تجلت تماماً في خطاب المساء.
وفي انتظار اكتمال صورة المجلس النيابي الذي يبقى برغم كل الاعتراضات على قانون الانتخاب وتطبيقاته، حصناً للديموقراطية وملاذا للنظام وحامياً للمؤسسات والشرعية، فإن وقف »الحروب« التي كانت تستهلك الكثير من حيوية البلاد ومن رصيدها هو مدخل اجباري الى مواجهة الاعباء الثقيلة التي تنهك كواهلهم، سواء بعناوينها الاقتصادية التي تبرز فضاحة في ضائقتهم المعيشية، او بعناوينها السياسية التي كادت تظهرهم وكأنهم على ابواب حرب اهلية او فوضى عارمة يختلط فيها الصح والغلط اختلاطاً يكاد يذهب بعقولهم.
وشكراً للانتخابات اذا كانت قد شكلت، حتى من قبل اعلان نتائجها، المدخل الى التصحيح، بالعودة الى المؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، والى الاصول الديموقراطية وعلى رأسها الاعتراف بما يقرره الناخبون، حتى لو كان ناقصاً وغير مكتمل أو مثقلاً بخطأ الاختيار.
فمن اختار هو من يتحمل المسؤولية.
ويبقى المرجع حارساً أميناً للدستور وللمؤسسات التي تبنى أقله نظرياً بارادة الناس وتعمل لأجلهم وبقوة تأييدهم وحمايتهم لها.

Exit mobile version