طلال سلمان

رئيس انشقاق لا يحكم

علّمتنا التجارب، وغالباً ما كانت ثقيلة الوطأة، أن نحترم الثوابت التي أقيم عليها هذا الكيان السياسي الشديد التعقيد الذي اسمه الجمهورية اللبنانية ، خصوصاً أن تجارب الخروج عليها قد انتهت بكوارث وطنية.
أول الثوابت وأخطرها أن الخارج ، عربياً بالأساس، ومن ثم دولياً، هو بين عناصر التكوين. إنه داخلي جداً، لا يمكن تجاهله أو إغفال تأثيره على هذا الكيان.
لذلك فالوطنية في لبنان لا ترى عيباً في العلاقة مع العربي ، سورياً بالأساس ومصرياً في الماضي وسعودياً في الحاضر، بل ترى فيها تثبيتاً للكيان وعنصر استقرار في الحياة السياسية، لا سيما أنها توازن النفوذ الأجنبي الذي يتناقص أو يتزايد بحسب القيمة السياسية للعرب ومدى تأثيرهم في السياسة الدولية أو التحاقهم بالأقوى.
ومنذ قيام هذا الكيان تعوّد اللبنانيون أن يتقبّلوا حصة للخارج في رئاساتهم وفي حكوماتهم، كما في اقتصادهم وتعليمهم وفي أنشطتهم المختلفة التي يشكّل الخارج ميدانها الأرحب، عربياً بالأساس، ومن ثم في أفريقيا، وإن ظل للغرب فرنسا ثم بالشراكة مع بريطانيا في فجر الاستقلال، ثم أميركياً، ابتداءً من الخمسينيات، حصة داخل الحصة.
ولبنان هو المتضرّر الأكبر، في توازناته الدقيقة، إذا ما تناقص الدور العربي فيه، لأن المستفيد الأوحد في هذه الحالة سيكون النفوذ الأميركي، مع ما يتضمنه هذا النفوذ من حصة طاغية للمصالح الإسرائيلية..
وهكذا تصبح المعادلة واضحة جداً، بل قاسية جداً: كل تراجع في الدور العربي في لبنان سيزيد من النفوذ الأميركي إلى حد الهيمنة، وسيزيد من إضعاف لبنان في وجه الأطماع الإسرائيلية… أي أن العرب يخسرون مرتين ويدفع لبنان كلفة هذه الخسارة للشريكين المتكاملين: الأميركي والإسرائيلي.
والأزمة اللبنانية الراهنة هي، في بعض وجوهها، نتيجة انكسار هذا التوازن، بل انقلابه، بحيث صارت الحصة الأميركية (الإسرائيلية) وازنة بحيث تهدد المعادلة الدقيقة التي يقوم عليها الكيان.
ومع اعتلال العلاقة مع سوريا واضطرابها الذي كاد يصل حد القطيعة، لا سيما في غياب الدور المصري الذي كان على امتداد الخمسينيات والستينيات حاسماً ثم انقلب على طبيعته فاندثر أو كاد تطلّع اللبنانيون إلى السعودية التي وجدت نفسها مطالَبة بدور كانت تتجنّب أن تُلزم نفسها بموجباته الثقيلة، حتى إذا استوثقت أن لا أحد، من العرب أو من الدول، يعترض عليه، أقدمت ولو بغير حماسة، ربما لأنها تعرف بتجربة الآخرين أن الأرض اللبنانية مزروعة بالألغام.
ثم إن المملكة، التي تريد لنفسها صورة المرجعية الإسلامية الجامعة والتي تراها بديلاً من العروبة التي تستريب في غربية أصولها وفي كونها انفصالاً عن الدين الحنيف، كانت تدرك أن لبنان أرض اشتباك عربي عربي، وعربي دولي، حتى من قبل أن تنجح إيران في أن تنتزع لنفسها دوراً شرعياً فيه بعد الثورة الإسلامية المجاهرة بالعداء لعدو العرب القومي، (والديني) إسرائيل، والتي اتخذت لنفسها شعاراً زحفاً زحفاً حتى القدس .
كذلك فإن المملكة التي لا تريد ولا تقدر على مواجهة الإدارة الأميركية، وجدت أن لبنان يتحوّل تدريجياً إلى حقل رماية ، سرعان ما تورّط فيه العالم أجمع: الغرب، بالقيادة الأميركية والإسناد الفرنسي (بعد تقاعد بريطانيا بلير) وسائر أوروبا، ومن ثم الشرق بدءاً بسوريا وصولاً إلى إيران، مع موقف مترقب تلعبه روسيا في محاولة لأن تربح من خسائر الطرفين… وها هي الصين تتقدم لتقارب الموقف الروسي، مما يشكّل لوحة مختلفة للتوازنات عمّا كان مألوفاً في السنوات القليلة الماضية.
[ [ [
ربما لأن تعقيدات الوضع في لبنان قد تفاقمت خطورة ففضحت العجز العربي، بل الغياب العربي وانعدام الدور العربي المشغول في كل من أقطاره الفقيرة بهمومه الثقيلة، أما في أقطاره الغنية فباستثماراته وتقلبات البورصة، لم يعد المواطن العربي أو حتى المسؤول يسألك حين تلتقيه عن أخبار لبنان، ويهتم بأن يشارك في تحليل التطورات المرتقبة، بل هو يكتفي في الغالب الأعم بسؤال هو أقرب إلى رفع العتب منه إلى الاهتمام الجدي: يبدو أن لا حل للأزمة في بلادكم، أليس كذلك؟!..
وقد يستدرك فيقول بلهجة اللوم: اتقوا الله في بلادكم الجميلة يا أخي وارحمونا… إن حروبكم فيها هي حرب علينا… إنكم تشرّدوننا في أربع رياح الأرض بينما لا نريد إلا لبنان. لكأننا نحبه أكثر منكم!
[ [ [
ماذا عن الغد؟!
إنه لأمر طيب أن تكون الأكثرية التي لا تستطيع الادعاء أنها حقاً أكثرية قد خفّفت من حدة استفزازها للأقلية التي لا يمكن اعتبارها أقلية، بحيث تقوم هدنة يستعيد فيها العقل دوره، فضلاً عن الحسابات الباردة للمصالح، فلا يذهب أحد إلى معركة الرئاسة بوهم أنه يستطيع أن يفوز فيها بالضربة القاضية ملحقاً بخصمه الهزيمة النكراء!
فلقد علّمتنا التجارب أن رئيس الانشقاق لا يحكم.
وعلّمتنا كذلك أن الرئيس المفروض بالقوة، وهي لا تكون إلا أجنبية، لا يحكم.
ثم إن رئيس الجمهورية لن يحكم بشخصه، بل إن مجلس الوزراء هو مرجعية السلطة ومصدرها..
فلماذا العراك على ما لا بد من التفاهم عليه؟!
لماذا نخسر من الزمن ومن الجهد ومن قيمة لبنان ودوره الحيوي والمطلوب، طالما أن أي فريق لا يمكنه أن يحقق النصر بالضربة القاضية؟!
إن إرجاء العملية الانتخابية قرار حكيم… فلعلنا نستطيع أن نختلس توافقنا الداخلي، بما يتناسب مع حاجتنا الملحة، ومع مصالحنا الحيوية وأولها وأخطرها أن يبقى لبنان، وأن يبقى موحداً، وأن تبقى فيه جمهورية تستحق كل هذا الصراع المهول على رئاستها…
وفي التجارب أيضاً ما يرشدنا إلى ضرورة أن يكون الرئيس موضع تلاقي المختلفين لكي يمكنه أن يحكم، أي أن يكون حامي الجمهورية بشعبها ومؤسساتها باعتباره نقطة التوافق، قبل أن يكون حامي دستورها الذي أفقده اختلافنا على تفسيره الاحترام الذي يتوجب أن يكون لآخر ما تبقى من جدارتنا باحترام أنفسنا فكيف باحترام العالم.

Exit mobile version