طلال سلمان

رئيس اجماع ولا توافق

يكاد الموقف المريب للإدارة الأميركية من الأزمة السياسية التي تعصف بلبنان أن يقول: خذوني!
لقد عطّلت هذه الإدارة، مباشرة أو عبر أصدقائها بين العرب والأوروبيين، كل مشاريع التسوية بين الموالاة والمعارضة، على امتداد العام الماضي:
منعت رحيل الحكومة المطعون في شرعيتها وميثاقيتها وحتى في دستوريتها، في نظر المعارضة.
وأصرت على بقائها بتراء.
وحرّضتها حتى استولت على صلاحيات رئيس الجمهورية أو أنها اغتصبتها.
ثم على تجاوز اختصاصات المجلس النيابي.
.. وهكذا تصرفت على امتداد عام كامل وكأنها القيصر ملك الملوك الشاهنشاه الذي يقرّر وحده، ولا يقبل قراره أي مراجعة أو تعديل!
وبرغم المبادرات المتعددة التي قدمها رئيس المجلس النيابي لتوفير مخارج لائقة للأطراف جميعاً من الأزمة، وأبسطها التوافق على حكومة وحدة وطنية تمهّد لانتخاب رئيس جديد في ظل مناخ توافقي.
وبرغم الوساطات والمبادرات التي بذلتها دول ومرجعيات أوروبية وعربية، سياسية ودينية.
فلقد أصرّت قوى الموالاة، بتحريض أميركي معلن، على رفض التسوية.
فجأة، وعشية نهاية المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعدما منع الخلاف إجراء العملية الانتخابية في أواخر أيلول أو خلال تشرين الأول الماضي، طلع أقطاب الموالاة على الناس باقتراح مفاجئ ومركّب: تعديل الدستور (وكانت ترفضه بالمطلق قبل ذلك) تمهيداً لتمكين قائد الجيش من تسنّم المنصب الرفيع.. باعتباره مرشح الإجماع!
كان يمكن، بكل بساطة، التواطؤ من أجل التوافق .
وكان يمكن، بكل بساطة، اغتنام فرصة هذا التوافق الطارئ، للتقدم على طريق المصالحة الوطنية، بتعزيز مرشح الإجماع باستيلاد مناخ توافقي شامل عبر حكومة وحدة وطنية وعبر اتفاقات ضمنية على مجموعة من التعيينات في المواقع الأمنية القيادية التي من شأنها أن تحصّن التوافق وتحميه… خصوصاً وقد بات التوافق مجسداً في قمة السلطة: رئيس الجمهورية المزكى بالإجماع.
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل حدث العكس تماماً: ترك أمر ترشيح قائد الجيش معلّقاً، في سوق المزايدات والمناقصات السياسية، بما أخذ يهدد صورة رئيس الإجماع بأن يصيبها شيء من التشوّه.
وبدل أن تتدارك الموالاة الموقف الناجم عن فراغ سدة الرئاسة، بكل ما أثاره من أشجان في صفوف الطائفة المارونية، خصوصاً، واللبنانيين عموماً…
وبدل أن تبدّل من منهجها ومنطقها في ما يتصل برئاسة الجمهورية بعدما أنهى الرئيس (السابق) إميل لحود ولايته الممددة وغادر إلى منزله، فتعيد الاعتبار في لغتها وموقفها إلى منصب الرئيس، الذي تمّ تهشيمه بطريقة غير لائقة بل ومهينة، ليس للشخص وحده، بل لكل ما يرمز إليه…
وبدل أن تبادره بتحية رقيقة تتمثل في تسهيل مهمته، كمرجعية، بالتنازل عن تفرّدها بالسلطة، ومحاورة المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية يطل معها العهد الجديد سليماً معافى وقادراً على مواجهة المهمات الصعبة المطروحة…
بدلاً من هذا كله عادت جبهة الموالاة إلى لعبتها القديمة ذاتها: لا لحكومة الوحدة الوطنية! لا للثلث الضامن! لا للشراكة!
كانت بهذا كأنما تقول: هذا الرئيس.
بل هي اندفعت إلى أبعد من ذلك فأخذت تمنّ على المعارضة: لقد اخترنا مرشحكم أنتم للرئاسة، فماذا تريدون بعد؟! أيستحق وزير أو بضعة وزراء أن تضيّعوا هذا الجميل؟! ولماذا لا تتركون الثلث الضامن في عهدة الرئيس العتيد؟!
كان الغرض واضحاً تماماً: إحداث شرخ في العلاقة بين المعارضة وقائد الجيش، الذي يعرف بالتأكيد أنه كان مرشحها المفضّل للرئاسة… فضلاً عن الافتراض أن مثل هذا الترشيح قد يزعج بعض قيادات المعارضة (العماد عون) وقد يربك العلاقات داخل صفوفها.
وبرغم وضوح الغرض فإن الرئيس الأميركي جورج بوش قطع الشك باليقين حين حرّض الموالاة على انتخاب الرئيس بأكثريتها غير الكافية دستورياً…
أي أنه حرّضها على التمادي في اغتصاب حكومتها صلاحيات رئيس الجمهورية، المغيّب بقرار أميركي معلن…
ومن الصعب تغطية شمس الحقيقة بالمنخل الأميركي…
كأنما القرار هو إبقاء لبنان رهينة لفترة أطول.. ولمن يريد أن يعرف السر لا بد من فتح الخريطة قليلاً للتنبّه إلى ما يجري في العراق تحت الاحتلال الأميركي وله وفي فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي ولها.
خصوصاً أن الإدارة الأميركية ومعها إسرائيل قد نالتا مؤتمر أنابوليس مجاناً، وهذا ما كان يهمها…
أما أن يبقى لبنان بلا رئيس للجمهورية، أو أن يتهم رئيس الحكومة بأنه يصادر الدولة جميعاً بطريقة غير شرعية، فهذا قد يعني بعض الطوائف وبعض المرجعيات وربما بعض القوى السياسية في لبنان، ولكنه لا يعني غيرهم!
… ويمكن، بالتالي، لديفيد ولش أن يسترضي البطريرك الماروني، فإذا ما احتاج إلى مدد استثنائي عاد ومعه إليوت إبرامز…
واشنطن غير جاهزة لعقد صفقة بعد، وهي لا تريدها الآن،
فلماذا الغرق في جدل بيزنطي حول مَن تسبّب في إضاعة الطريق إلى الهدف المرتجى؟

Exit mobile version