طلال سلمان

رئاسة “الطائف”: حارس نائم وصفّارة مفقودة

ما اشبه اليوم بالامس، رحم الله رفيق السلاح ادمون صعب

ملأ ضجيج “الميثاقية” الفضاءين السياسي والإعلامي، وتضاربت الآراء في شأنها إلى درجة حولتها إلى ما يشبه الطلسم الذي يحتاج إلى منجّم لتفسيره، أو إلى شيفرة تعذر إلى الآن فك رموزها. وفي حين وجد فريق في الميثاقية الطريق “الشرعي” لتحقيق المشاركة في السلطة بين المسيحيين والمسلمين، رأى فريق آخر أن الدستور هو الطريق “الشرعي الوحيد” لحسم مسألة المشاركة الميثاقية في السلطة.

والمسألة، في نظرنا، ليست طلسماً ولا شيفرة يتعين البحث عن منجّم أو ساحر لتظهير صورتها، بل هي واقع جرى تجاهله منذ تأليف الحكومة الحريرية الأولى، بعد الطائف، وهذا ما سنركز عليه في سياق عرضنا لموضوع الميثاقية، مفهوماً وتطبيقاً.

“شيطان” الميثاق اللبناني

الميثاق، في تعريفه، هو عهد يأخذه الإنسان على نفسه. ولعل أفضل مفسّر له كان الشيخ ميشال الخوري، نجل الرئيس الشيخ بشارة الخوري، في ندوة حول الميثاق الوطني عُقدت في “مركز عصام فارس”: “إنه وثاق يربط به الإنسان نفسه طوعاً”، أي انه عقد مُحكم بين طرفين أو أكثر، لا تنفصم عراه بسهولة، والثقة هي عروته الوثقى.

والعهود ثلاثة أنواع: عهد مع النفس، وعهد مع الله، وعهد مع الشيطان. وثمة من يُطلق على العهد الذي ينكث به صاحبه أنه كان “ميثاقاً مع الشيطان” الذي أغرى الانسان بمنحه القوة والغنى والشباب، على ما تقول إحدى الأساطير، في مقابل تسليمه روحه.

وثمة من يخشى أن يكون “الشيطان” قد تسلل إلى الميثاق الوطني اللبناني وتسبب في الإشكالات التي حصلت منذ الشغور الرئاسي قبل سنتين ونصف السنة، علماً أن “الشيطان” كان كامناً داخل الميثاق منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.

وكان تعاهُدُ اللبنانيين على العيش معاً قد تجسّد في دستور 1926 الذي وضعه ميشال شيحا انطلاقا من رؤيته لـ”العيش المشترك” بين “جماعات طائفية متشاركة، هدفها التوحّد وتعزيز أواصر الأخوة في ما بينها”، علماً أن ديمومة هذا العيش تحتاج إلى مجلس تمثيلي (برلمان) يكون مركز “لقاء وتوحيد لهذه الجماعات من أجل إدارة مشتركة للحياة السياسية للأمة”.

ومن “ضرورات الحياة المشتركة” في دستور 1926 انبثق الميثاق الوطني، ليتبلور بقلم كاظم الصلح في بيان “الاتصال والانفصال”، الذي دعا فيه إلى التضامن الوطني والإصرار على الاستقلال رداً على “مؤتمر الساحل” العام 1936، الذي أكد المشاركون فيه تمسكهم بالوحدة مع سوريا ورفضهم فكرة الاستقلال، وقد أُعلنت مبادئه في 18 آذار 1937، بعدما حظي بمباركة البطريركية المارونية. وقد شدّد نصّ الميثاق على “استقلال لبنان في حدوده الجغرافية الحاضرة”، ودعا إلى “تحالف مع الدول العربية” على نحو “يضمن لكل منها، في دائرة كيانها الخاص، الاستقلال التام”. وقد تبنى الرئيس رياض الصلح بنود هذا الميثاق في بيان حكومته الأولى، مضيفا إليها شعار “لا شرق ولا غرب”.

الميثاقية الدستورية

ويرى البروفسور فايز الحاج شاهين، في محاضرة حديثة له في “ندوة العمل الوطني”، أن ميثاق العيش المشترك تكرس في المادتين 24 و95 من دستور الطائف، الأولى تقول بتوزع المقاعد في مجلس النواب بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، ونسبياً بين الطوائف والمناطق، والثانية (الفقرة “ب”) “تلغي قاعدة التمثيل الطائفي وتعتمد الاختصاص والكفاية في الوظائف (…) وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الاولى وما يعادلها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة، مع التقيد بمبدأ الكفاية”.

ولاحظ الحاج شاهين وجود نقاط التقاء وتمايز بين ما أعلنه الرئيس رياض الصلح في بيانه الوزاري العام 1943 ووثيقة “الوفاق الوطني” في الطائف. وقال إن الالتقاء هو في تأكيدهما أن الوفاق هو مبرر وجود لبنان، أما التمايز فهو في أن ميثاق 1943 كان مبنياً على سلبيتين ـ لا شرق ولا غرب ـ بينما “وثيقة الطائف” مبنية على إيجابيتين وردتا في مقدمة الدستور المعدّل وهما أن “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه” (الفقرة “أ”)، وأن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش لمشترك”. وأشار إلى خصوصية العيش المشترك اللبناني لجهة أن له معنى دستورياً ويتمتع بقوة إلزامية، هي الحق لكل طائفة بالاشتراك في السلطة بضمان دستوري. وقال إن “مقدمة الدستور وضعت الركائز، والموزاييك أصبح وحدة تجسّد الوفاق الوطني، الركن الأساس للأمة”.

عُدل الدستور وأُدخلت إليه الإصلاحات التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطني، وأبرزها نقل صلاحيات السلطة الإجرائية من شخص رئيس الجمهورية إلى “مجلس الوزراء مجتمعاً”. ولئن أعطي هذا الدستور نوعاً من القدسية، إلا أن ذلك لم يمنع تسلل “الشيطان” إلى بعض مفاصله، وهو كان أصلاً كامناً فيه عندما جرى تنفيذه انتقائياً ولم تكمل بقية بنوده، خصوصاً المرسومين اللذين ينظمان العمل في رئاسة الجمهورية، وطريقة ممارسة رئيس الجمهورية صلاحياته المنصوص عليها في المادة 49 من الدستور، وكذلك آلية صنع القرار في مجلس الوزراء. وقد بدأ ضرب الميثاقية من خلال الطريقة التي اعتُمدت في تأليف الحكومات، وفي آلية صنع القرار داخل مجلس الوزراء.

وهنا دخل الشيطان سائلاً: من يحق له المشاركة في صنع القرار؟

الوزراء بالطبع. ولكن أي وزراء؟ هل هم ممثلو الكتل التي تتمتع بأوسع تمثيل، والذين يملكون القدرة والشرعية، أم أولئك الذين يختارهم زعماء طوائفهم (الوزير سمير مقبل مثالا، دون الانتقاص من قدره)، أم ممثلو الأحزاب والنقابات والمناطق والمجتمع المدني والتكنوقراط والمنظمات المهنية والشبابية …الخ، أم يكفي، تحقيقا “للمناصفة”، أن يكون الوزير الماروني “يُصلّب بالخمسة”، والأرثوذكسي والكاثوليكي بالثلاثة، سواء كان يمثل قاعدة شعبية أم لا، كما كان يحصل إبان حكم الوصاية السوري؟

إغراءات المغانم

ولعل الضربة الكبرى التي أُلحقت بالميثاقية كان الشيطان وراءها، إذ وسوس للرئيس الراحل الياس الهراوي بأن يفتح باب أحد مكاتب القصر الجمهوري، إثر تكليف الرئيس الراحل رفيق الحريري تأليف حكومته الأولى، فوجده في جدل مع رئيس مجلس النواب نبيه بري حول التشكيلة الحكومية والحصص، ليبادرهما بالسؤال: “ما دمتما تتوزعان الحصص، أفلا يحق لنا بحصة منها؟”. فكان الجواب: “حصتك محفوظة فخامة الرئيس. أطلب وتمنَّ”. فقال: “أريد وزارة الأشغال، فقد سبق لي أن توليتها وأعرف شعابها ودهاليزها”. فاستُجيب طلبه. وكان له ما أراد.

وبعدما أنجز الشيطان لعبته مع الرئيس الهراوي، توجّه إلى الرئيس الحريري موشوشاً: “الحَكَم في مجلس الوزراء الذي يفترض فيه أن يكون حيادياً يفقد هذه الصفة عندما يُعطى حصة، فيصبح تالياً شريكاً وطرفاً في النزاعات داخل مجلس الوزراء وخارجه. هذا الحَكَم عليه ان يسلم “صفّارته” إلى من أنعم عليه بالمكرمة، وإن خلافاً للدستور”.

هكذا، أخرج الرئيس الهراوي الصفارة من درجه وسلّمها للرئيس الحريري لتتحوّل في ما بعد جسراً مرت من تحته “سوليدير” وأدواتها من صناديق ومجالس وهيئات و”بواليع”، إضافة إلى مرسوم التجنيس والصندوق الأسود “للكارتيل النفطي” و”سوكلين”، فضلاً عن وضع اليد على منطقة النورماندي والواجهة البحرية وأملاكها. وكرت سبحة “المكرمات الوزارية”، فأصبح للرئيس ثلاثة وزراء بدلاً من واحد، فتعطلت آلة الحكم، واختل التوازن، وضاعت المسؤوليات.

من هذه الخلفية، جاء اعتراض “التيار الوطني الحر” على “تيار المستقبل” مؤخراً، إذ اعتبر أنه أخلّ بالميثاقية بشأن التعيينات الأمنية والتلكؤ في إقرار قانون جديد للانتخاب والإمعان في التمديد للمجالس على أنواعها، حتى بدا للتيار العوني أن الحريرية السياسية لم تخرق الدستور فحسب، بل باتت تعتبره مرجعيتها الخاصة، لا مرجعية ميثاقية.

يقول رئيس مجلس النواب السابق الذي يوصف بمهدنس “الطائف” حسين الحسيني، إنه خلافاً للانطباعات الخاطئة التي تكونت بعد تعديل الدستور لجهة نقل السلطة الإجرائية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، إن صلاحيات الرئيس ودوره لم يضعفا بل زادا أهمية، إذ جعلت المادة 49 من الدستور الرئيس رأس الدولة، أي رئيس كل المؤسسات، وحامي الدستور، أي الساهر على حسن تطبيق الميثاقية التي تضمنتها وثيقة الوفاق الوطني. كما أُلقيت على عاتقه مسؤولية المحافظة على الاستقلال وقيادة القوات المسلحة.

ومن المؤسف أن الرؤساء الذين تعاقبوا على بعبدا بعد “الطائف” أهملوا هذه الصلاحيات وتطلعوا صوب المغانم وما يستطيعون غرفه من معجن السلطة، فاظهروا ضعفهم حيالها، وتخلوا عن “الصفّارة” من أجل “الكوارة” كما يقول أهل الريف، أي الفوز بحصة من أسلاب السلطة ومغانمها.

ليس من باب المبالغة اليوم الحديث عن الرئيس القوي الذي تنطلق قوته من شخصيته، وعفة نفسه، ونقاوة كفه في الدرجة الأولى وقبل البحث في قوة تمثيله، ذلك أن ما نبحث عنه في الرئيس القوي هو المناعة الأخلاقية إزاء إغراءات المال والنفوذ، فلا يتخلى عن الصفّارة، أياً تكن الظروف ومهما اشتدت الضغوط. وإن مثل هذا الرئيس يجب أن يشتهيه الفريق الآخر ويغريه حتى يقبل بتولي الرئاسة، بدل أن يتوجه هو إلى هذا الفريق ساعياً إلى كسب تأييده له، فيُفاجأ بشروط ومطالب مصلحية وزبائنية.

نشرت في “السفير” 27 أيلول 2016

Exit mobile version