طلال سلمان

ذكريات عن جمال عبد الناصر ورفاقه وعن هيكل الذي روج لحرب 1967 واليمن ناصر النشاشيبي في بيروت بعد 40 عاماً من الغياب »لن تتحرر فلسطين حتى يعتبر كل عربي أن القدس هي معتقده«

قبل أيام هاتفني الزميل والصديق مازن البندك ليقول ان ناصر النشاشيبي في طريقه الى بيروت، بعد انقطاع طويل، وانه يخشى (وهو المقدسي الذي يحمل جواز سفر أردنياً) ان تحول بعض التأشيرات الصادرة عن قنصليات أجنبية في القدس المحتلة، دون تحقيق أمنيته بزيارة بيروت التي اشتاق إليها، والاطمئنان إلى أحوال ابنه رياض وابنته وإنجاز بعض الإجراءات المتصلة بنقل الملكية وحصر الإرث، تحسباً لعاديات الأيام.
راجعت المدير العام للأمن العام اللواء جميل السيد فقال: لا مشكلة، ويستطيع الأستاذ ناصر ان يجيء متى شاء، فهو أستاذ كبير، ثم انه صهر البلد، حتى لو كان الزواج قد انتهى بالطلاق…
… وجاء ناصر النشاشيبي، الصحافي الكبير الذي عاش حياته بالطول والعرض، سياسة ووجاهة وترفاً وظرفاً وأنساً وليالي ملاح، على ما كان يقول المرحوم سعيد فريحه…
ولقد عرفت الكثير عن ناصر الدين النشاشيبي من الزملاء الراحلين الذين عملت معهم، سليم اللوزي، رياض طه وسعيد فريحه، وغيرهم ممن عاصروا مجد القاهرة وصحافتها أيام جمال عبد الناصر… وهو الذي رحب بهذا الصحافي الفلسطيني الكبير وعينه رئيساً لتحرير جريدة »الجمهورية« التي كانت تنطق نظرياً باسم الثورة المصرية، في حين ان الناطق الفعلي باسم عبد الناصر كان محمد حسنين هيكل، في أخبار اليوم بداية، ثم في »الأهرام« حين أولي شرف تجديدها لتكون أهم صحيفة عربية معاصرة.
ولقد عاصر النشاشيبي فصادق او خاصم معظم رجالات المرحلة التي سبقت نكبة فلسطين، ثم ومن خلال موقعه الاعلامي الممتاز في قاهرة عبد الناصر عرف فصادق او خاصم الكثير من الزعامات العربية، وعُرف بأنه صاحب قلم مر، وبأنه يحب ويكره ويعبر عن عاطفته كتابة، ومن هنا فقد دخل في معارك شرسة مع العديد من الزعماء وكتاب الزعماء وصحافيي جيله…
كذلك فلقد كان نجم صالونات، له من وسامته وثروة وشهرة قلمه ما جعله محط انظار الكبار من أهل الفن، مطربين ومطربات وممثلين وممثلات، ونجوم المجتمع الملكي في أكثر من قطر عربي.
وانتج ناصر النشاشيبي، الغزير قلمه، 47 كتاباً في السياسة والصحافة، تركز غالب موضوعاتها على فلسطين ومواقف المسؤولين العرب منها، قضية وصراعاً مع الصهيونية وشبكة تحالفاتها الدولية،… ودخل في معارك ضارية ضد ملوك وزعماء وسياسات.
وعندما وقعت هزيمة 1967 تفجر قلم النشاشيبي بالمرارة، فاصطدم بكثير ممن كان يعلق عليه الآمال في السعي لتحريرها.
ومع وفاة جمال عبد الناصر، رأى النشاشيبي، ان القاهرة تضيق به وعليه، فتركها إلى الترحال حتى استقر لفترة طويلة في جنيف، حيث بات يطل على الأحداث العربية من شرفة غربية تتيح له مدى اوسع للرؤية والمعرفة والتحليل وفهم ما تخفيه الأخبار بعناوينها المثيرة.
* * *
ناصر الدين النشاشيبي في بيروت، إذن، بعد غياب طويل… ومعه، كان هذا اللقاء.

.. ولأن حياته والمجد الذي يقول انه عاشه انطلقا من مصر عبد الناصر فقد اختار ناصر النشاشيبي لحديثه مع »السفير« بداية العلاقة مع الرئيس الراحل، يوم كان في أوج مجده السياسي، قال: أرسل لي جمال عبد الناصر، بواسطة محمد حسنين هيكل، دعوة لمرافقته في زيارته إلى الشام، مع اعلان الوحدة، فتركت بيروت وذهبت فالتقيت به في قصر الضيافة حيث كان هناك عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف بغدادي (الذي كان قد طلب مني ان احضر له من بيروت مسكنات »ميلتاون«). كانت رحلة كتب عنها أحمد بهاء الدين مقالاً طريفاً، وكان معنا هناك هيكل ومصطفى أمين وعلي أمين بالإضافة إلى مصطفى المستكاوي…
أضاف النشاشيبي: قال لي عبد الناصر يومها: اترك بيروت وتعال معنا، ففعلت، انضممت إلى شلة الوفد مع عبد الناصر وكنا ننتقل من مدينة إلى مدينة حيث كان الريّس يلقي الخطب ونحن ننقلها إلى القاهرة ونعلّق عليها في الصحف.
ويرافق النشاشيبي عبد الناصر في زيارة للحدود بين سوريا وفلسطين المحتلة، حيث قال الريّس للمرافقين جميعاً: اسمعوا، لا أريد ان يكتب أحد غير النشاشيبي عن زيارتنا إلى الجولان لأنه، هنا، سيرى شيئاً يُفتت كبده، سيرى وطنه (فلسطين).
من على حدود الجولان أشرفنا على طبريا وكان المشهد هائلاً فقال عبد الناصر: شايف وطنك يا ناصر؟
ويشهد الله أنني لم أبكِ إلا يوم توفيت والدتي ويوم رأيت وطني في تلك الزيارة.
بكيت في تلك اللحظة فتدخل عبد الناصر وقال لي: بسيطة يا ناصر… بسيطة. سيأتي اليوم الذي تستعيد فيه بلدك. رحمه الله.
÷ تأخر هذا اليوم كثيراً، أليس كذلك؟
{ ماذا نفعل. لم يكن عبد الناصر على علم بما يدور ضده في الخفاء. ولا شك ان صراعه مع عبد الحكيم عامر قضى عليه. لم يكن قليلاً ان يعرف رئيس الجمهورية ان قائد الجيش ليس معه، خصوصاً ان عبد الناصر كان يرى كيف تدور الانقلابات من حوله في العالم العربي. لم يكن عبد الناصر مطمئناً. ثم ان هناك المستشارين. أنا لا أقول ان هيكل كان سيئاً، لكنه كان مهتم بزوايا خاصة وأخرى لا يهتم بها كتلك التي نفذ منها الأعداء إلى عبد الناصر.
÷ بماذا اوكلك عبد الناصر؟
{ اوكل إليّ أولاً تغطية زيارته إلى سوريا لإعلان قيام دولة الوحدة والتعليق عليها في جريدة الثورة »الجمهورية«، ثم أصبحت رئيساً لتحرير جريدة الجمهورية بقرار رئاسي من ناصر. لم أكن أرغب بهذه المسؤولية لأن المنصب هذا في ظل حكم فردي سيصبح خطرا، اذ لم اكن اريد ان انهي حياتي بإرادة من حاكم، في تلك الايام جاء ملك المغرب الى القاهرة سألني: هل نبارك لك بالمسؤولية؟ فقلت له: لا لست سعيدا بذلك، وسألته ان يطلب من عبد الناصر إعفائي من المسؤولية، فاستغرب وطلب الايضاح، فقلت له: أنا مش مصري أنا قدسي.
÷ هل اوكل إليك دوراً سياسياً ما؟!
{ قال لي ذات يوم: أنت تعرف كم يكرهني الأميركان وكذلك اسرائيل، وأنت موكل بأن ترصد مكامن المخاطر وتحذرني منها. وكذلك كنت اعلمه بكل ما يصدر من كتب عن اسرائيل وفلسطين في كل انحاء العالم حيث كنت اسافر الى اوروبا وكل مكان بحثا عن تلك الكتب. وكانت علاقتي به قريبة. دعيته الى منزلي ودعاني الى مقره، وكان قد حضر احتفالا للسيدة فيروز وفرقة »الانوار« تكريما للرئيس فؤاد شهاب الذي كان له موقف كريم من اللاجئين المصريين على الحدود اسورية اللبنانية بعد ضرب الوحدة بالانفصال، ويومها جاء الرئيس الى بيتي لمشاركتنا في حفل عشاء.
÷ بادرتني بهذه المحطة من حياتك، هل هي الاهم في حياتك المهنية؟
{ صحافيا؟ اجل. لكنني في العمل الديبلوماسي كنت سفيرا متجولا للجامعة العربية وكشفت عورة الجامعة وخورها وضعفها واستقلت بعد ان ألفت كتابا (سفير متجول) عن الجامعة كشفت فيه كل هذه الامور. كان هذا بمثابة مسمار اخير في نعش عبد الخالق حسونة باشا، وكنت اقول يومها انه لا يمكن الاعتماد على مثل هذه الجامعة العربية لإنقاذ فلسطين.
÷ على كل حال لم يتغيّر حال الجامعة اليوم؟
{ مستحيل… مستحيل.
÷ لماذا برأيك لن يتغير؟
{ (يضحك) عندما وقعت النكبة نظم كمال ناصر قصيدة: »صبرا يا شرق من الدول… تجري للخلف على عجل«. وما زال الامر كذلك، الى الخلف، لم يتحسن اي امر. الإرادة معدومة والثقة معدومة. زادت الامور سوءا بدخول المال الى ساحة الصراع وانقلبت الامور رأساً على عقب، وأصبح مالك المال هو الحاكم.
يتوقف النشاشيبي مستجمعا افكاره ويقول بتنهد: عندما يشعر كل عربي ان القدس هي مدينته وانه مسؤول عنها وعن تحريريها تتحرر القدس. اليهودي يعتبر ان القدس قطعة من إيمانه ودينه. لذلك كان عنوان آخر مقال كتبته في جريدة »القدس« المقدسية: »أنا القدس«. فالقصة ليست بإرسال المال من هذه الدولة الخليجية او تلك لإنشاء معهد طبي او خلافه، هذا لا ينقذ القدس. فالقدس أغلى من ذلك بكثير، من يحكم القدس يحكم العالم، وهي التي تدل اي حاكم الى ما يفعل والى اين يتجه.
هنا يعود النشاشيبي للنبش في ذكرياته ويلتقط منها ما قاله ذات يوم للملك حسين: يا سيدي القدس تهمنا كلنا صحيح، ولكنها تهمك انت لتبقى فيها. قال لماذا؟ قلت: لأن ملك الاردن والقدس شيء، وملك الاردن شيء آخر.
ومن ذكرى الى اخرى ترتبط بالموضوع يتذكر النشاشيبي: كنت مرة في اسبانيا، اراد الملك خوان كارلوس مجاملتي فبادرني بالقول: هل تعلم يا سيد ناصر انني احمل لقب ملك القدس، وانني حين اكتب الى سفير او امير اوقع بلقبي: خوان كارلوس ملك اسبانيا وملك القدس.
÷ بالاضافة الى عبد الناصر، مع من مِن الرؤساء العرب ارتبطت بعلاقة؟
{ الغريب ان العلاقة الاكثر تميزا كانت مع نوري السعيد وهو كان العدو الاكبر لعبد الناصر. لكنني استطعت ان اجمع بينهما، بعد ان شجعني عبد الناصر على العلاقة مع نوري السعيد. لماذا؟ لأنه عندما احتاج عبد الناصر لنوري السعيد في حكاية حلف بغداد كلف صلاح سالم والرئيس صائب سلام، وكنت معهما، بالذهاب الى سرسنك (مصيف في شمال العراق) لكي نفاوض نوري السعيد باسم عبد الناصر، تحت شعار: كيف يمكن لبغداد ان تتحرر من الحلف مقابل ان يقيم العراق حلفا آخر؟ يومها كان صلاح سالم بطبعه العصبي يشتم نوري السعيد، وأرد عليه بأننا نفاوض نوري السعيد، ولا يمكن ان تلعب معه. والمهم اننا اتفقنا مع نوري السعيد على اطار كيف نعمل بعد اليوم. ورجعت الى مصر واجتمعنا في منزل محمد حسنين هيكل في شارع شجرة الدر في الزمالك وجاء عبد الناصر وعامر، فنقلت للرئيس ما جرى مع نوري السعيد وأنه مستعد ليجمع البرلمان العراقي لإعلان تجميد حلف بغداد، مقابل ان تقولوا له من سيدافع عن العراق. فقال عبد الناصر: الله، هل تصدقه؟ هل دعا البرلمان؟ قلت له: لا. قال: هذا (…) لا تصدقه. ومن ثم طارت الفكرة وانقطع الحوار مع نوري، ومن ثم تلاحقت المراحل… وانتهت بمقتل عبد الناصر.
÷ مقتل عبد الناصر ام وفاته؟
{ لم تكن صحة عبد الناصر طبيعية. لكنني لم اطمئن الى موته المفاجئ.
÷ ما هي الشكوك لديك؟
{ لست خبيرا في تطورات الطب. لكن الآن لمجرد ان تنفخ غبارا ما في الهواء يمكنك قتل من تريد. هناك جراثيم قاتلة. أنا اقول ان عبد الناصر ازعجهم وكان عملاقا.
÷ من تتهم؟
{ اميركا… وإسرائيل لأنه اتعبهما، وهو العملاق الوحيد الذي صمد.
÷ هل تعتقد ان عبد الناصر اخطأ في هذا الصدام؟
{ نعم، كان، رأيي ان لا يصل عبد الناصر الى درجة صدام طويلة عريضة قبل ان يحل قضية فلسطين. لذلك قلت عندما مات: يا ليته مات قبل الآن بقليل (اي قبل النكسة) او ليته تأخر قليلا حتى يحرر لنا البلد (فلسطين)، فهو الحاكم العربي الوحيد الذي كان قادرا على تحرير فلسطين. رحم الله عبد الناصر فهو رحل قبل أوانه… فمسائل الاردن و»أيلول الاسود« ليست تهمني وهي ثانوية، فالقضية الاساسية هي قضية القدس ولا ينبغي التلهي بأشياء اخرى من مثل ما اقنعه به السادات وهيكل وعامر حول »ثورة السلال« في اليمن والكلام الفاضي حول »النزهة البحرية« الى اليمن وتلاله وظلامه الدامس.
÷ اشعر انك تتحدث عن عبد الحكيم عامر بقسوة. لا؟
{ لم اكن اطيق مذهبه الاجتماعي في الشرب والمخدرات. في حفلة اقيمت احتفاء بسوكارنو لمناسبة كتاب اصدرته عن التعاون بين مصر وسوكارنو، كان عبد الحكيم مخمورا، وتركت الحفل يومها. أنا اقول إن اخانا عبد الحكيم بمذهبه الخاص اساء لمصر وللقضية الفلسطينية. أنا لست عدوا لعامر ولكن عندما يكون الجيش المصري في معركة مصيرية في 67 لا يمكن القبول بأن يكون قائده غارقا مع برلنتي عبد الحميد.
كذلك الامر بالنسبة الى هيكل الذي يقال انه ضدي. لا ليس صحيحا، فهو صديقي وأنا اول وجه عربي وفلسطيني عرفه هيكل ثاني يوم مقتل الملك عبد الله، واستقبلته في بيتي، وأنا لا استطيع ان اخدش كفاءة وقدرة هيكل المؤرخ والشغيل والكاتب، وهو يستحق كل المجد الذي حققه. لأنني اعرف كم تعب هيكل، وكيف كانت المعجزة بمسايرته لعبد الناصر. ولكن هيكل اخطأ في حكاية القدس وحرب 1967 ولم يكن من الضروري ان يهوّن على عبد الناصر حرب 67.
÷ ولكنك كنت تقول لي قبل قليل ان القضية التي تطالب بها هي فلسطين والتحرير. كيف تريد التحرير بدون حرب؟
{ تُحرر القدس بحرب تكون مستعدا لها في كل خندق وشارع وبالتفاهم مع الشعب المقدسي ومع الشعب المساند للحكام. فكيف تحارب بشعب القدس الذي يشتهي نصفه لقمة العيش. هتلر عمل اقتصاد حرب قبل ان يقوم بما قام به، ثم علينا ان لا نخوض معارك غير ناضجة لأنها ستؤدي الى الهزيمة وتقوية العدو.
÷ اراك تلقي باللوم على العرب حكاما وجامعة، ولم تشر حتى الى مسؤولية الفلسطينيين انفسهم؟
{ أنا لا أبرئ احدا. يا أخي أنا تركت اهلي وأولادي وذهبت الى مصر. وعندما خيّرني الملك حسين بين جنسيتي ومصر، اخترت مصر، وسحبت مني الجنسية. توفيت والدتي في القدس ولم أستطع ان امشي في جنازتها.
÷ من منعك؟
{ الملك حسين، فالقدس كانت تحت الوصاية الاردنية، وهذا فندق السان جورج يمكن لحجارته ان تشهد حين اتصلت بالقدس هاتفيا لأستمع الى عزاء والدتي، يومها توسط المرحوم سامي الصلح لدى حكام الاردن فلم يستجيبوا له.
÷ ماذا وراء موقف الملك حسين؟
{ لأنني مشيت مع عبد الناصر. ولو!
÷ اليس من اسباب اخرى؟
{ بلى. هاجمت الملك. أنا، والله لم أرحمه، طلبت له رحمة ربه ولم أمنحه رحمتي. في الواقع قسوت على الملك حسين، وعندما جرّدني من جنسيتي كتبت مقالا فيه: »سلمت يدك يا صاحب الجلالة. الفرق بيني وبينك كما بين الجنود يحررون القدس من الاحتلال والظلام وبين أجدادك الذين جاؤوا بالمعاهدة مع الانكليز تعدهم بالعروش (…)« غضب الملك يومها كثيرا.
÷ ماذا عن علاقتك ببقية الحكام العرب؟
{ مع عبد الناصر، إما أن تكون معه او ضده، فلا حلول وسط. فقد طلب مني مرة ان اهاجم الملك الحسن، فأجبت بأنه عديلي. فقال ناصر: اسمع هنا لا يوجد لا عديل ولا صهر. هنا توجد معركة وبعد مدة اضطررت لكتابة مقال فيه: »هذا حسن ليس بالحسن…« وقد عاتبني الملك على ذلك.
÷ كيف كانت علاقتك بسوريا؟
{ لم تكن جيدة ابدا. من 1948 كنت اول من هاجم حسني الزعيم. ثم في فترة الشيشكلي ذهبت الى الشام بعد ان جاء هيكل وطلب مرافقتي لمقابلة فارس الخوري. اتصلت بالشاعر ابو سلمى وذهبنا الى فارس الخوري الذي لم يكن يرى جيدا. أجلسني الى جانبه وتحدث الينا عن آخر ايام الشيشكلي متنبئا بآخر ايامه. هيكل سُعد بالخبطة الصحافية وسارع الى مصر ينشرها في »أخبار اليوم«، فقلت له: أخذتك معي وهكذا فعلت (يضحك). هيكل أستاذ.
÷ اذا أردت ان تقيّم مرحلتك الماضية، بماذا تختصرها؟
{ كاتب عربي يواجه الزوابع قبل ان يواجه الزلزال. كانت مرحلة أعاصير والآن حل القاتل المدمر. ويشهد الله انني كنت بلا سند، لا مال ولا دولة. كنت انفق من جيبي من مال والدي، وكان لخالي اسعاف النشاشيبي صولات وجولات فكرية وأدبية هنا في بيروت.
÷ طالما ذكرت بيروت، ماذا عنك وعنها؟
{ لم آت الى بيروت منذ 40 سنة. بعد الانتكاسات العربية قررت الهجرة الى حيث لا يسألني أحد لماذا هزمتم. ذهبت الى جنيف البلد الحيادي، اشتريت بيتا وانصرفت الى التأليف ولي الآن 47 كتابا. انني الآن اذكر بيروت جيدا واستعيد ذلك اللقاء مع بشارة الخوري حين أخذ يحدثني لساعتين متتاليتين لم أنبس خلالها بنبت شفة، ولما توقف قلت له: لم أعد أفرق ما اذا كنت انت الذي تتحدث أم البحر.
÷ ماذا عن ابو عمار؟
{ أرجو ان يكون جيدا.
÷ لماذا؟
{ لأنني لم اتعاون معهم من اليوم الاول.
÷ لماذا ايضا؟
{ يجب ان تسألني كيف يجوز لي ان اتعاون؟ كلهم اصحاب قضية، ولكن لي نظرتي وحساباتي المختلفة. لا احد ينكر جهاد ابو عمار، لكن لي مآخذ كثيرة على حاشيته ووزرائه وتصرفاتهم التي لا ترضي اصحاب الضمائر. انا ضد التطبيع والانحدار البطيء او السريع في السياسة.
÷ ماذا ستفعل بعد بيروت؟
{ دمشق ومن ثم عمان… ثم انني اخطط للعودة الى القدس لأن هناك اهلي وبيتي.
÷ وماذا سيكون موقف الإسرائيلي؟
{ اليهود؟ لو استطاعوا طحني لطحنوني.
÷ وانت الآن تشرف على عمرك كله. بماذا تشعر؟
{ أنا حزين، وأشعر بأن الانسان لا يستطيع الا ان يحب حياته وشبابه. اشعر بالألم لانقضاء السنوات، فأنا ما زلت قادرا على الكتابة ونشر تجاربي.
÷ ماذا تتمنى الآن؟
{ ان اطمئن على اولادي وبلدي وقضيتي، وليس من مطلب لي سوى ان أمنح العيش وأن لا اموت قبل ان ارى القدس وأسمع نداء »الله اكبر« في المآذن فيها.

Exit mobile version