طلال سلمان

ذاهب الى وطن عبر عراق

لم يبلغني قريبي، وهو عسكري متقاعد، أنهى خدمته في الجيش برتبة بسيطة، أنه قرّر أن يذهب متطوعاً ليضع خبرته في المتفجرات بتصرف »المجاهدين ضد الاحتلال في العراق«.
قال عندما التقاني: لم أعد أستطيع أن أجلس كالمخدّر، بل كالأبله، أمام شاشات الفضائيات لساعات وساعات، أتفرّج على أهلي يُقتلون بالقصف أو تحت ركام بيوتهم المدمرة… لم أعد أطيق التباري مع الجيران في توصيف وسائل القتل الجماعي، مدى الصواريخ عابرة القارات، أنواع الطائرات المغيرة، أوزان القذائف بالأطنان، قدرات حوامات الأباتشي ومواصفاتها الأسطورية التي انتهت مع »بارودة منقاش«… كذلك لم تعد تروي غليلي خطابات الصمود أو حكايات البطولة في المواجهة، فأما التظاهرات فتظل، مع تقديري، لمنظميها والمشاركين فيها تعبيرا عاطفيا، أو ربما موقفا سياسيا، ولكنها لا تروي الغليل. أنا المقتول ولست المشاهد أو حتى المتعاطف مع أهل الشهيد. وبصراحة فإنني أرى في تظاهرات البلاد الأجنبية من المعاني والدلالات والقدرة على التأثير ما لا ألمسه هنا. أنا لا أفهم في السياسة، ولكنهم هناك يتحركون بوعيهم لمصالحهم وخطورة العدوان على مكانة دولهم، ربما، وعلى كرامتهم كشعوب. لعلهم يخافون من انعكاسات هذا الهجوم الوحشي علينا في العراق على مستقبل العالم. إنهم يرفضون الهيمنة الأميركية. يرفضون عالم القطب الأوحد، أي الأميركي، كما أسمع في تصريحاتهم. مشكلتي بسيطة جداً، لم أعد أطيق أن أبقى شاهد زور! ألم يقل النبي أو الإمام لا أدري، إن الساكت عن الحق شيطان أخرس! ماذا بوسعي أن أفعل. فكرت. إنني أمتلك خبرة لا بأس بها في المتفجرات. أستطيع أن أفكك، وقد فككت فعلاً عبوات ناسفة كثيرة كانت معدة للقتل في بيروت وجهات أخرى من لبنان. عطلت ألغاماً، وكشفت سيارات مفخخة. قلت في نفسي: لعلني أفيد هناك!! سمعت أن بعض الشبان يتطوعون للذهاب إلى العراق… هم ليسوا أكثر وطنية مني!. بعضهم ممّن أعرف لا يتقنون من فنون القتال إلا إطلاق النار »في الفاضي وفي المليان«. طبعاً، أنا أقدّر وطنيتهم ولكنني أستطيع أن أفيد أهلنا في العراق مثل هؤلاء وأكثر. سألت فعرفت فذهبت فسجلت اسمي، وأنا الآن أرتب أموري بحيث لا أترك لعائلتي أية مشكلة، إن أنا لم أعد. لن أترك لها الكثير، لكن كل فرد فيها سينال حقه حسب الشرع… أنا الآن في انتظار ترتيبات السفر. تريد الحق؟! لقد أراحني قراري فرضيت عن نفسي. ليس أقسى من شعور أي منا بأنه مقتول بغير قتال! إلى متى سأظل أهرب بعيني من عيون الأطفال العراقيين الذين يتطلعون إلينا، عبر الشاشات، وقد جمّدها الرعب… وأهرب بأذني من نواح الأمهات العراقيات وهن يلطمن وجوههن ويرثين أزواجهن أو أبناءهن الذين تناثرت أجسادهم مزقاً فلم يعد التعرّف عليهم ممكناً إلا لرفيقة العمر أو الوالدة الثكلى..«.
توقف خبير المتفجرات المتقاعد للحظات، قبل ان يستأنف كلامه فيقول: اقول لك الحق، ان قراري ليس ابن الساعة، لقد كنت انوي ان اذهب الى فلسطين، ولكنني لم اجد طريقي اليها مع انها تسكنني. لقد استفرد بها الاسرائيلي، حاصرها عرب الاميركان، ومنعوا عن شعبها المجاهد كل اسباب المقاومة، بل وحتى اسباب الحياة، وبالذات المال، فلم يعودوا يملكون من الاسلحة الا دماءهم، وها هم يفجرونها بعدوهم! قلت في نفسي »هي معركة واحدة. كل ما حدث ان جبهة المواجهة قد اتسعت. الهزيمة في فلسطين هزيمة لنا في كل ارضنا، والهزيمة في العراق سوف تغتال مستقبلنا. العدو هو العدو ذاته. اسرائيل تقاتلنا بسلاح اميركاني ومعونات اميركية وحماية سياسية اميركية. وها هي اميركا جاءت الينا بجيوشها في العراق تقاتلنا فوق ارضنا. وها هو العراق يقاتل فيصمد. وطالما ان الطريق مفتوحة الى العراق، بفضل سوريا التي اتخذت موقفاً شجاعاً فلماذا لا نتحرك؟!. للمناسبة: لم اقرأ حديث الرئيس بشار الاسد في »السفير«، ولكنني استمعت اليه عبر الفضائيات والاذاعات. حيّاه الله! انه قائد شجاع. ان الاميركان يهددونه الآن. لن يخاف من تهديداتهم. لقد رد عليهم. وأمس، رأيت صوراً لمتطوعين سوريين في الموصل. ما اسرعهم، لقد وصلوا فعلا… سمعت ايضاً ان متطوعين كثراً من المغرب والجزائر ومصر واليمن والاردن قد صاروا الآن في بغداد، او في الطريق اليها. هذه اخبار مفرحة!. اتريدني، يا ابن عمي، ان اكون اقل عروبة او اقل رغبة في الجهاد، بل حتى في الاستشهاد، من اجل قضية عادلة، من هؤلاء الذين يهجرون اهلهم وأوطانهم البعيدة ليصلوا بمشقة الى العراق، ونحن اقرب اليه منهم؟! كلما طالعتني وجوه اهل البصرة او الناصرية او النجف او كربلاء شعرت انني اعرفهم. انهم مثل آبائنا وأعمامنا وأخوالنا. تريد الحق، لقد لمحت وجه امي في وجوه العديد من العراقيات، وأثقلني الحزن وأنا أراهنّ عند حواجز الجنود الذين من حديد، من الاميركان والانكليز، يتوسلن لكي يعبرن ببعض الزاد او ببعض الماء الى ذويهن المحاصرين..«.
وختم خبير المتفجرات المتقاعد حديثه فقال: ان بقيت هنا سأموت غماً وكمداً، اما هناك فقد أنقذ
طفلا او شيخاً او امرأة. قد انزع لغماً معداً للقتل. قد أعطل عبوة او صاروخاً لم ينفجر فأحمي حياة بعض هؤلاء الذين جاءهم الموت الاميركاني من اقصى الارض. لا احد يموت الا في يومه. وأنت اعرف مني بأن هذا الموت سيأتينا في كل مكان من بلادنا. أنتركهم يغتالون العراق ثم نتولى التفجع في رثائه. والبكاء عليه، لقد بات يضجرني، بكاء الرجال، بل انه يستفزني… وها هي فلسطين تعلمنا أن لا وقت للبكاء! أتعرف، لم اعد استطيع التمييز بين المشهد العراقي والمشهد الفلسطيني؟! النسف والتدمير والقتل الجماعي ومواكب التشييع والضحايا في البرادات والجرحى في الطرقات، وجنود الاحتلال الذين احترفوا تنفيذ المجازر بلا وجوه بلا ملامح، حتى عيونهم تحجبها النظارات او المناظير المحدّدة »للاهداف« المطلوب ابادتها. الاهداف بشر طبعاً«.
***
الأمور محددة تماماً في ذهن هذا الجندي المتقاعد، خبير المتفجرات.
وهي محددة عند الأكثرية من الشباب العربي، مشرقاً ومغرباً:
؟ القضية واحدة، والمعركة واحدة في العراق كما في فلسطين! الهارب من الميدان هنا هو هو الهارب من الميدان هناك… وهو »مشطوب« من حساب المستقبل، في كلتا الحالتين، فالهرب ليس خلاصاً، بل ان الهارب سيموت مدانا بالخيانة أو بالفرار من الميدان في زمن الحرب!
؟ العدو واحد… وبقدر ما توحدت أميركا تحت إدارة جورج بوش مع إسرائيل أرييل شارون فإنها قد اسقطت الجدل حول طبيعة العلاقة بينهما. كلاهما في موقع العدو، وكل العرب الرافضين للاحتلال في موقع الهدف.
؟ وفي جملة ما حسمه هذا العدوان الوحشي على العراق تلك المراهنات البائسة التي كان يعقدها معظم الحكام (وبعض الجمهور) من العرب على »العدالة الأميركية« وعلى رفض الديموقراطية الأميركية للعنصرية الإسرائيلية، فضلاً عن الاحتلال الإسرائيلي. ان أميركا الآن شريكة صريحة في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بقدر ما هي إسرائيل شريكة في المخطط الأميركي للهيمنة على الأرض العربية بدءا بالعراق.
؟ لقد اسقط الصاروخ الأول على بغداد اوهام سلاطين الهزيمة والمستفيدين منها بين العرب، بأنهم »شركاء« أو »حلفاء« أو »أصدقاء«، فإذا هم مجرد »عملاء«، بلادهم ليست لهم بل هي قواعد للعدوان ضد أهلهم! عروشهم مهددة كائنة ما كانت النتائج… فالقتال ضد مخطط الاحتلال سيكون قتالاً ضدهم (والشواهد في قطر والبحرين والكويت والسعودية واليمن ومصر أوضح من ان تحتاج إلى شرح مفصل لنتائج الارتباط بقتلة مستقبل الأمة).
؟ بالمقابل فقد تخلى الناس عن حكامهم الذين يحاصرونهم ويقتلونهم أحياناً لحساب الأميركيين والإسرائيليين، واندفعوا متجاوزين الحدود، ليقاتلوا ضد الكل مجتمعين في المعركة القومية في العراق، معركة العرب العاربة والمستعربة، بل ومعهم الكرد أيضا والتركمان، معركة المسلمين منهم والمسيحيين كلداناً وأشوريين والصابئة واليزيديين وسائر النحل..
لقد اسقط الناس الحدود »القطرية« التي حاولت ان تنفي الحقيقة المؤكدة من ان المصير واحد.
ولا بد من التنويه بالقرار الشجاع الذي اتخذته القيادة في سوريا بفتح حدودها مع العراق أمام المتطوعين العرب الذاهبين للقتال مع أهله…
انه قرار تاريخي يؤكد الوعي بخطورة العدوان بوصفه »طليعة« المخطط الأميركي لاحتلال المنطقة جميعاً ومصادرة حقوق أهلها فيها، بكياناتها السياسية وموارد ثروتها الطبيعية، ومستقبل أجيالها الآتية.
والمواجهة في مثل هذه اللحظة صناعة للتاريخ، أما التخاذل والهرب من الميدان والتلطي وراء ذرائع من نوع »نحن لا نملك قرارنا في مواجهة القوة الأعظم في العالم« فليس إلا استعداء لجماهير هذه الأمة وتقريب أجل الخلاص: ان انتصر الاحتلال لن يكافئهم، بل هو لن يكون في حاجة اليهم.. وإن سقط الاحتلال (وهو بالنتيجة لا يمكن ان ينتصر فيدوم) فإن عقابهم على أيدي شعوبهم سيكون مشهوداً!
قد تكون هذه المواجهة ساعة ولادة جديدة لهذه الأمة..
والذهاب إلى العراق، أو إلى فلسطين عبر العراق، عودة إلى الوطن!

Exit mobile version