طلال سلمان

د بين العهدين

مع اقتراب نهاية اي عهد، طبيعياً كان او ممدداً، تصدر عن الطبقة السياسية تصرفات توحي بأحد أمرين: اما ان »الدولة« في طور التصفية، واما انها غير موجودة أصلا، وانها مجرد مشروع برسم التنفيذ… مستقبلاً!
يقولون انها »مرحلة انتقالية«، ومن طبيعتها التحول الى تصريف الاعمال، وتجميد القرارات، وارجاء التعيينات والتشكيلات، وتحويل المستحقات الى ديون تدفع في وقت لاحق، ووقف المشروعات المعتمدة والمرصودة نفقاتها،
لكن الحقيقة أدهى من هذا كله وأمر، اذ ينكشف الواقع الفعلي للمؤسسات جميعاً، بما فيها من يفترض فيها حماية الدستور، كمجلس النواب، فإذا هي مجرد هياكل بواجهات لامعة ولكنها مفرغة الداخل من مضمونها ومن دورها الأصلي.
تتعطل الحكومة وتنقلب الى تصريف الاعمال، وبالتالي يشل مجلس الوزراء كسلطة فعلية ومصدر للقرار،
تتهاوى التراتبية وينعدم المتبقي من الانضباط في الادارات العامة، إذ ينشغل اصحاب المواقع العليا بمحاولة ترتيب اوضاعهم مع »المقبل« من الحكام، وهذا قد يتطلب نقل البندقية من كتف الى كتف، والتنصل من السابق تمهيداً للالتحاق بالآتي، او الامتناع عن اي حركة تمثلا بالقول الشائع »عند تبدل الدول احفظ رأسك«.
وبين هذا وذاك تتكشف فجأة، وبسحر ساحر الفضائح المالية والادارية التي كانت مخفية او مضبوطة التوقيت كالصواريخ المدمرة او السيارات المفخخة، فتذهب بمن عُيِّنوا تحت ضغط قوى نافذة في العهد الراحل، او تزعزع مواقعهم، ويشهّر بهم و»بمراجعهم« التي يفترض العمل لاضعافها الى الحد الاقصى او إحراجها ومن ثم اخراجها من حومة الصراع.
لقد أُعطي مجلس النواب، مثلا، اجازة طويلة في دورته العادية، ثم استدعي على عجل الى دورة استثنائية يعمل فيها النواب بكد وكأنهم مجموعة من خبراء المحاسبة والمتفقهين في علوم الادارة واحتساب التركات والمعاشات التقاعدية وأنصبة الورثة من ذرية الموظفين.
وها هو »مهدد« بدورة استثنائية ثانية لانجاز ما لن ينجز!
كل ذلك وهم يعلمون ان الخزينة المثقلة بالديون، الداخلية والخارجية، ليس فيها ما يؤمن النفقات الاضافية التي تفرضها سلسلة الرتب والرواتب المقترحة،
لكن المزايدة المفتوحة بين الحكومة والمجلس تفرض الانخراط في هذه اللعبة بحيث لا تربح الأولى شعبية على حساب الثاني، وذلك بإظهاره صاحب القلب القاسي والمستهين او المتخلي عن حقوق الموظفين، او يبدو النواب وكأنهم »بخلاء« على ناخبيهم ومقترين حيث يتوجب الكرم، بينما هم »كرماء« الى حد التبذير في مجالات أخرى قد تفيد بضعة من النافذين على حساب المال العام، أي المال المقتطع كضرائب ورسوم مفروضة على مجموع المواطنين، سواء منهم من بلغ سن الرشد الانتخابي او من كان قاصراً لا يتمتع بهذه النعمة بعد!
انه إشغال للوقت الضائع بحركة لا بركة فيها،
وتزدحم الأسئلة والتساؤلات امام الناس:
إذا ما تم تهشيم المجلس والحكومة، المؤسسات والإدارة العامة، فكيف وبمن سيكون او سيقوم العهد الجديد؟!
بجردة سريعة، ومن دون تدقيق، يمكن القول ان الاتهامات، طائشة او مقصودة، تكاد تشمل الآن مختلف الوزارات والمجالس والصناديق والهيئات التي يفترض ان تبقى فوق النقد،
اللغط يتناول، على سبيل المثال وليس الحصر، الإدارات المعنية بالإنماء والإعمار ومجالس تنفيذ المشاريع (الكبرى والصغرى)، ومال المهجرين، وصندوق الجنوب، ومكتب الدواء، والضمان، والمستشفيات بعلاقتها مع وزارة الصحة، ووزارة الموارد ومؤسسة الكهرباء، ووزارة النفط وارباح المستوردين الحصريين، ووزارة البريد وتلزيماتها التخصيصية، والجامعة اللبنانية، ووزارة الخارجية عبر تشكيلاتها الموقوفة واسباب وقفها، وقوى الأمن الداخلي بمختلف فروعها الظاهرة والمستترة الخ..
واللغط يتناول أساسا الرؤساء والرئاسات جميعاً، خصوصاً وان المؤسسات والاشخاص »ينتمون« الى واحد من هؤلاء،
ولعل فضيحة »التكليف« التي ارجئت بها التعيينات في مواقع الفئة الأولى في الأسبوع الماضي، مجرد عينة او واحدة من وسائل الايضاح لحقيقة وضع »الدولة« عشية استقبال »العهد الجديد«!
للمناسبة: هل سيكون ثمة عهد جديد؟!
فإن كان الجواب »نعم« فماذا بقي سليماً من »الدولة« لمثل ذلك العهد، لو جاءتنا به ليلة القدر،
وان كان الجواب »لا«، فأي دولة ستكون للبنان في العهد الممدد ذاته أو الممدد له والممتد طالما امتدت الأزمة المفتوحة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!
في بلاد الناس يذهب الحكام وتبقى أو من أجل أن تبقى الدولة،
في بلادنا لا بأس ان ذهبت الدولة من أجل خاطر الحكام،
فالدولة نستطيع ابتداعها كل يوم،
أما الحكام فكل منهم مفرد لا شبيه له ولا بديل منه،
وفي بلاد الناس يتمثلون بالقول المأثور »لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك«،
أما في بلادنا فنقول: »لو اتصلت بغيرك فلا دام ولا داموا..«
ودمتم والسلام!

Exit mobile version