طلال سلمان

ديموقراطية طوائفية مدولة في كانتونات مفتوحة لفتنة دائمة

في تقاليد الزجل أن لبنان يملأ الكون..
وفي تقاليد السياسة المحلية أن أي حدث محلي هو حدث كوني بالضرورة، لأن لبنان بلا داخل، فكل «الخارج» فيه، يصنع رؤساءه وحكوماته ونوابه، ويحكم مصارفه وحركته الاقتصادية وشركاته العقارية.. ولهذا الخارج تمثيله، بنسبة أو بأخرى، في أحزابه وفي هيئات مجتمعه المدني، في جامعاته ومدارسه، وفي نقاباته المهنية وحتى العمالية منها.
من هنا فإن الجدل الذي بدأ مبكراً حول الانتخابات النيابية المقبلة المقرر إجراؤها بعد تسعة أشهر يستبطن مصالح دول عديدة، غربية بمجملها هذه المرة، عبر مشاريع القوانين المطروحة للبحث وهي «طائفية» بلا تحفظ شعارها «حماية الوجود المسيحي» عبر تمكين الناخبين المسيحيين من اختيار نوابهم المسيحيين، بطوائفهم المختلفة، متجاوزين «الوصاية الإسلامية» إلى ممارسة قرارهم الحر… وليفعل «الشركاء المسلمون» المنقسمون هم أيضاً بحسب انتماءاتهم المذهبية ما يشاءون وما تشاء لهم «عواصم القرار» التي ترعاهم.
في سابق العصر والأوان كانت الدول النافذة عربياً: سوريا منفردة وبحدود، ثم سوريا مع مصر، ثم مصر مع سوريا، ثم سوريا مع السعودية، وإن بحصص غير متساوية… ودائماً مع مراعاة حصة «الخارج»، فرنسا ثم فرنسا ـ بريطانيا، قبل أن تصير الولايات المتحدة الأميركية هي الغرب كله.
الكلمة الآن للغرب الأميركي الذي يلتقي تحت وصايته «العرب» جميعاً، خصوصاً بعدما غرقت سوريا في دماء أبنائها وفقد نظامها موقعه المميز في الخارج وهيبته والكثير من شرعيته في الداخل… ومصر مشغولة بذاتها، فالسعودية لا تقدر حتى لو أرادت، وتكتفي بأن يكون لها حق الرأي أحياناً، وتتجنب استخدام «الفيتو» الذي قد يجر إلى التصادم وقد يضطرها إلى ما لا تقدر عليه ولا ترغب فيه، أقله في العلن.
ليس «التدويل» جديداً على لبنان وفيه. هو «مدوّل» بقرار استيلاد كيانه السياسي وبطبيعة نظامه المهجن: طائفي مموه بالديموقراطية، وفي ظلالها تتم ممارسة الفولكلور الداخلي مثل الانتخابات الرئاسية والنيابية وصولاً إلى الجمعيات الخيرية.
وليست الانتخابات فعل إرادة، ولا يسمح لها أن تعكس إرادة الناخبين. أية إرادة لهذه القبائل الطائفية، ومن قال إن لهؤلاء الرعايا إرادة؟!
الانتخابات بقانونها، وقانونها يحدد الفائزين سلفاً، بغض النظر عن مواقف الناخبين وآرائهم، عبر تقسيم الدوائر.
ثم ان للانتخابات النيابية في تلك الدول المبتلاة بالنظام الديموقراطي مواعيد ثابتة، وقوانين لا تبدل ولا تعدل إلا نتيجة ثورات شعبية، صارت ـ هناك ـ من الماضي.
أما في لبنان فلكل دورة انتخابية قانونها. نبدل القانون فنبدل النتائج ونبدل وجهة السير بل ونكاد نبدل هوية البلاد: ستة قوانين انتخابية في ستين سنة، بمعدل قانون كل عشر سنوات، كحد أقصى. لكأن «الشعب» يتغير بين دورتين انتخابيتين!
كل رئيس جمهورية، تقريباً، ابتدع قانوناً للانتخابات. وكل قانون حمل بصمة الجهة الراعية للرئيس ثم للبرلمان الجديد. وعلى سبيل المثال يستذكر الناس مع قانون كميل شمعون حلف بغداد ودخول النفوذ الأميركي شريكاً للبريطانيين في المنطقة، وقبل أن ينفرد بها محولاً البريطانيين إلى بيت خبرة.. ومع قانون الستين الحقبة الشهابية، مع مراعاة النفوذ المصري، ثم تأتي قوانين المرحلة السورية لنعود ـ في الانتخابات الماضية ـ إلى قانون الستين..
أما القضية فهي: كيف ينتخب المسيحيون نوابهم بغير شريك، حتى لو اقتضى الأمر تقسيم البلدة الواحدة، فضلاً عن المدينة الواحدة، إلى «صناديق» صافية اللون الطائفي، فلا يقتحم مسلم صندوقة اقتراع مسيحية فتكون هيمنة وتكون عودة إلى عهد «أهل الذمة» والأحكام الجائرة… علماً أن في تلك الحقبة المظلمة لم يكن «المسلمون» أكثر من رعايا، ولم تكن «بدعة» الانتخابات قد عرفت بعد، أما البيعة للخليفة فكانت تؤخذ بالسيف وليس بصندوقة الاقتراع!
لقد غيّب الانفجار الدموي الرهيب الذي يكاد يذهب بسوريا، هذه الدولة التي كان لها دورها المؤثر في المنطقة عموماً وفي لبنان خصوصاً، دمشق عن ذاتها وأفقدها مكانتها المرجعية، لفترة طويلة في الشأن اللبناني.
كذلك فقد تعاظم ضجيج التيارات الإسلامية، سنية ـ إخوانية وسلفية ـ (وشيعية)، وتقدم بعض هذه التيارات ليأخذ السلطة كلياً أو ليشارك فيها، مواجهاً المجتمعات المدنية الإسلامية التي قد تقبلها شريكة بقوتها التمثيلية، ولكنها لا تسلم لها بالانفراد بالسلطة وترفض مقولة الحكم بالشريعة.
ومنطقي إذا ما صار «المسلمون» العرب، داخل لبنان وفي المحيط العربي، متهمين في هويتهم الوطنية، وحتى القومية، ان يحتسبوا على دول الجوار الإقليمية (تركيا وإيران).. ومنطقي والحال هذه ان يجد «المسيحي» الذريعة لأن يقول: أنا لست منكم! بل إنكم ترونني فائضاً، ولا تهتمون لأمري وتحتسبونني مجرد رعية من أهل الذمة. ومن حقي ان أحمي ذاتي وديني منكم! وعلى هذا أريد ان أنتخب ذاتي بذاتي، فلست منكم ولستم مني، وليكن لكل طائفة كانتونها أو كانتوناتها.
منطقي، والحال هذه، ان تسقط وحدة البلاد، وان تسقط هوية أهلها الذين لم يكونوا «مواطنين» فعلاً ولن تصيرهم الكانتونات «مواطنين» بل انها سوف تعزل البعض عن البعض الآخر مطلقة مشاعر الخصومة والبغضاء إلى حد الفتنة بما يكرس الانفصال في ما بينهم وغربة الناس عن أرضهم التي تسقط قداستها، لأن أهالي كل كانتون سيؤكدون كل يوم انهم غير «جيرانهم» الذين في الكانتون الآخر، بل انهم خصومهم منذ بدء الخليقة وإلى يوم الدين…
فكيف تكون هذه الأشلاء الممزقة بالانقسام الطائفي المكرس قانوناً وبالانتخاب المباشر وطناً، وكيف يكون «سكانه» شعباً موحداً في أهدافه وفي آماله، في همومه وفي طموحاته؟
وكيف ومن سيمنع تعاظم الأصوليات، المستقلة في كانتوناتها الطائفية والمذهبية، من أن تغدو «دور هجرة» أو «دور جهاد»؟! ثم أين سيكون الفاصل بينها وبين دولة يهود العالم في إسرائيل؟!
هل من الضروري الإشارة إلى ان هذا المشروع يحمل ملامح إسرائيلية؟.
وإذا كانت الدول بل الشعوب العربية في حال صراع سياسي مفتوح الآن بين الوطنيات والقومية وبين الأصوليات إخوانية وسلفية، فهل من الفطنة ان يندفع اللبنانيون في هذا الطريق الموازي الذي يسقط عنهم «عصريتهم» ووحدتهم وأسبقيتهم إلى «العروبة» ومن ثم إلى «العالمية»،
إلا إذا كان هناك من يزين «للمسيحيين» انهم سيحظون برعاية عالمية تحفظ لهم كيانهم الجديد المستولد من مجموع كانتوناتهم الانتخابية؟!
.. ولقد جرب اللبنانيون عموماً مثل هذه الرعاية، غير مرة، فلم تنجب إلا الفتن والحروب الأهلية وارتجاج الكيان تحت وطأة الدعاوى الانقسامية.

Exit mobile version