طلال سلمان

ديموقراطية طائفية ديموقراطية بدبابات احتلال

يفرض »الحدث الديموقراطي« في لبنان نفسه كموضوع أول، خصوصاً أنه يجيء في عز فيضان الأحاديث عن الديموقراطيات في المنطقة العربية بأنماطها المختلفة وأبرزها: الإسرائيلية كما تتبدى في فلسطين المحتلة، والأميركية كما تتجلى في العراق تحت الاحتلال وكما تطالب بها واشنطن لأقطار أخرى أبرزها السعودية.
للبنان خصوصيته، طبعاً، حتى في طبيعة »الديموقراطية« التي افترض أنها تصلح له، بغير أن تُصلحه، فلا تؤذيه وإن كانت لا تفيد كثيراً في تقدمه أو في نهوضه كمثال أو كنموذج، هي »الديموقراطية الطائفية« أو »الديموقراطية بالطائفية«.
ومع أن »الحدث الديموقراطي« في لبنان يتصل بانتخابات فرعية لملء مقعد شغر بوفاة نائب من الدرجة الأولى، هو المرحوم بيار حلو، الذي كان يختزن كل التوازنات الدقيقة التي تحكم العمل السياسي في منطقة اشتهرت بحساسياتها التي كثيراً ما اتشحت بالدم، وهي تسكن الذاكرة وتتحكّم بالمواقف وتبتدع تلك الخلطة الهجينة من »الديموقراطية الطائفية« أو »الديموقراطية بالطائفية« التي تولد مثل هذا النظام الفريد القابل للحياة والاستمرار برغم كل الأسباب المنطقية التي تبرّر اندثاره..
مع أن »الحدث الديموقراطي« في لبنان »تفصيلي« كانتخاب خلف لنائب جاء أجله في هذا التوقيت بالذات، إلا أن دلالات نتائج التصويت تفوق بما لا يقاس حجم المقعد النيابي في واحدة من الدوائر الانتخابية المختلطة (طائفياً) في جبل لبنان، مستودع الحساسيات والذكريات المولدة للحروب الأهلية، والتي هي بين مبررات الفرادة في النظام القائم.
أخطر ما في هذا الحدث أن جنرالاً خسر الحرب وخرج منها مطروداً، وفي أوساط طائفته مطارداً بلعنة »حرب الإلغاء« وإسقاط حرمة الصرح البطريركي في بكركي والمسّ بحصانة »الرمز« ممثلاً بالكاردينال صفير، قد عاد فاقتحم النظام اللبناني من داخله، وهو يركب حصان »الطائفية الديموقراطية« أو »الديموقراطية بالطائفية«.
ولقد تعاون »أهل النظام« جميعاً على إعادة هذا »الجنرال« أو استعادته، بعدما أبقوه »حياً« بل وجعلوه »قطباً« عبر معاركهم ضده التي حوّلته إلى »دون كيشوت« وأضفت عليه ملامح »المظلوم« وهو المتهم من طرف المسيحيين قبل المسلمين بأنه بطل »اقتتال الأخوة« الذي أودى بحياة الآلاف منهم.
إن طائفية النظام أقوى من وطنية الشعب، وأحياناً تكاد تكون لاغية للوطنية وليس للديموقراطية فحسب، إذ تجعل الطائفة فوق الوطن وتجعل من رموزها »الأقطاب«، بغض النظر عمّا كلفت زعاماتهم من دماء الناس..
ثم إن أهل النظام كانوا يقدمون عبر ممارساتهم ذخيرة يومية لهذا الجنرال الذي خرج من القصر الجمهوري لاجئاً إلى سفارة فرنسا التي رعت »استسلامه« العسكري لتستقبله »منفياً«، مطلوباً لعدالة بلاده بتهم يتقدم فيها »الاختلاس المالي« على الخطأ السياسي الذي جدّد الحرب ضارية بين »الأخوة في الدين« بل في الطائفة فضلاً عن الأخوة في الوطن.
يكفي أن نستذكر الصراع فوق قمة السلطة، لا سيما على امتداد السنوات الخمس الأخيرة.
قبل ذلك علينا أن نتوقف مطولاً أمام طوائفية ممارسات أهل النظام، التي تسمى تبسيطاً بالمحاصصة، والتي تشمل كل مواقع السلطة السياسية والإدارية وكل المصالح والمنافع في القطاعات جميعاً: العام والخاص والمختلط!
بل علينا أن نتوقف أمام الاختلاف الممتد حول كل مقومات النظام الحالي: من اتفاق الطائف ودستوره إلى المجلس النيابي المنبثق عنه، نظرياً، إلى سائر المؤسسات السياسية (الحكومة مثلاً) والقضائية من المجلس الدستوري إلى مجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن التحكّم بمواقع القضاة بذرائع تختلط فيها المحسوبيات السياسية بالحساسيات الطائفية.
بعد ذلك يمكننا أن ننحدر إلى أحاديث الصفقات ووجوه الفساد الذي عطل ويعطل أي احتمال للإصلاح، والذي يظلل أهل الحكم والنفوذ بغيوم سوداء يعجز القضاء (أو أنه يُمنع) من البت فيه مراعاة لمن لا بد من مراعاته.
لقد كشف هذا الانتخاب الفرعي أحزاب النظام بقدر ما كشف سلطة النظام الذين لن يستطيع أي منهم ادعاء الفوز، أو التنصل من المسؤولية عن هذا الفشل في مواجهة الجنرال الذي يكاد يكون قد هزمهم وحده.
كما كشف ان الطائفية قد تعززت وحفرت لنفسها عميقاً في عظام النظام بدلا من ان تضعف، كما كان الأمل بل التوهم.
ان الطائفية الآن اقوى بما لا يقاس من الديموقراطية، وانها اقوى ما تكون حين تتبنى او ترفع شعارات مطلقة وغير محددة (السيادة، العنفوان، التحرير… الخ)، بل وغير مرتبطة بحزب له برنامج واضح.
ثم انها كشفت ان جيلا جديداً من اللبنانيين قد بدأ يعبر عن نفسه هو ليس مع رموز النظام القائم، وهو ليس مع هذا الالتباس بين الطائفية والديموقراطية.
***
في لبنان، إذن، تبدو الطائفية اقوى من الديموقراطية، ويبدو »الجنرال« المطرود من نعيم النظام »ابنا شرعياً« لهذا النظام لا يمكن مسحه طالما استمر النظام هو النظام!
لكن هذا »شأن داخلي« في اي حال..
اخطر ما في الامر ان الاحتلال الاميركي يحاول ان »يقتبس« هذا النظام او ما يعادله للعراق، لعله ينجح في ان يشغل العراقيين عنه بحرب مفتوحة بين الاخوة في الوطن، تدمر الكيان السياسي ولا تستبقي من الدين إلا التعصب ومن اختلاف الاعراق إلا العنصرية.
كل ذلك تحت شعار »الديموقراطية«.
هل من الضروري التذكير بان الصواريخ والطائرات والدبابات وجيوش الاحتلال لا تبني الديموقراطية، خصوصاً انها تقتل اول ما تقتل اولئك الذين كانوا يطمحون الى ديموقراطية حقة تحمي وطنهم وتصون لهم حقوقهم فيه.
أما في فلسطين فان مدافع دبابات الاحتلال الاسرائيلي، ومعها صواريخ الطائرات الحربية والحوامات، يضاف اليها جدار الفصل العنصري، إنما تقصف يوميا ومنذ سنوات حق الشعب الفلسطيني ليس في ارضه فحسب، بل وفي اختيار رئيسه ديموقراطياً وبالانتخابات التي راقبها العالم اجمع.
ان »الديموقراطية الاميركية« تتبارى الآن مع »الديموقراطية الاسرائيلية« في إلغاء وطنين عربيين، وشعبين عربيين: من ينجح اولا!
… وهما في هذه الحرب ضد الطموح العربي الى الديموقراطية، بل الى حق الحياة، شريكان متواطئان ومتكاملان في السلاح وفي المنطق المخالف لكل منطق.
***
ونعود الى لبنان والدروس الاولى المستمدة من تجربة الانتخاب الفرعي:
ان الطائفية تستسقي الطائفية، وتحيي عظام الطائفيين وهي رميم. الفساد يستسقي الفساد والمفسدين، ويحمي مفسدي الأمس بمفسدي اليوم، فالكل شركاء ولا مجال لأن يحاسب واحدهم الآخر حساباً جدياً ينتهي بنتائج حاسمة تقفل الباب في وجه الآتين ليعوضوا ما فاتهم وليبدأوا من حيث انتهى »السلف الصالح«!
وعلى الديموقراطية ان تنتظر طويلا امام ابواب الطامحين اليها والممنوعين من ممارستها سواء بقوة نيران الاحتلال او بقوة نيران الطائفية، وهي اقوى، والعياذ بالله.

Exit mobile version