طلال سلمان

ديموقراطية سلطة مال طائفية

كل شيء هادئ على الجبهة العربية، فلا بأس إذن من بعض »المسامرات« عن الانتخابات النيابية وعن علاقتها العميقة والوثيقة بالديموقراطية في لبنان.
كل شيء هادئ عربياً: فها هي قمة »كامب ديفيد 2« قد فشلت؟! بسبب »التنازلات« الإسرائيلية التي يُحاسَب عليها إيهود باراك الآن بقسوة قد تطيح حكومته، وبسبب »التصلب« الذي أظهره المفاوض الفلسطيني وتردده في القبول بعروض مغرية من نوع أن يكون صحن المسجد الأقصى خاضعا للسلطة، والعلم الفلسطيني يرتفع فوق القبة المذهبة بينما أرض المسجد وما تحت الأرض وما جاورها واتصل بها كله يتبع السيادة الإسرائيلية، على أن يخصص ممر لياسر عرفات يسلكه حين يذهب للصلاة، فلا يعترضه فيه فينقض وضوءه أي حارس أو حاجز تفتيش إسرائيلي!
كل شيء هادئ عربيا: وها هو الموفد الأميركي الخاص قادم لإقناع الدول العربية بضرورة »الضغط« على عرفات لكي يقبل التنازلات الإسرائيلية الهائلة المقدمة إليه… أو بتعبير أدق للامتناع عن الضغط على عرفات حتى يقبل المعروض وإلا…
وواضح أن عرفات قد »وافق« بشرط أن تؤمن له التغطية العربية فلا يزايد عليه مزايد عربي كأن يدعي أنه يريد أن يصلي في القدس، في أي من مساجدها، أو يريد أن يحج الى كنيسة المهد أو كنيسة القيامة بغير ان يحصل على إذن من سلطة الاحتلال الإسرائيلية..
كل شيء هادئ عربيا: وها هو الضغط يشتد على لبنان، وعلى العرب الذين قد يفكر بعضهم بمساعدة لبنان أو بتهنئته على نجاحه في معركة تحرير أرضه بالمقاومة، ومن ثم قد يقدم على تقديم بعض العون له لإعادة بناء ما تهدم وحماية الانجاز العظيم الذي من شأنه أن يحرج العديد من »الموقعين« العرب على اتفاقات إذعان لم تُعِد إليهم أرضهم مع أنها اقتطعت من كرامتهم ومن واجبهم في حماية التراب الوطني، وهذا أضعف الإيمان..
فالدول المانحة كادت في مؤتمرها التحضيري تتحول إلى لجنة وصاية دولية على لبنان، وقد بدأت بمناقشة وجوه صرف المساعدات من قبل أن تقرها على الورق، ومن قبل أن تدفع قرشا واحدا منها… بل انها قد ناقشتها عبر الشروط التي حاولت إسرائيل وتحاول فرضها على لبنان بدءاً بمصير السلاح الذي أنجز به »حزب الله« معركة التحرير، مرورا بكيفية نشر الجيش اللبناني في المناطق المحررة، وانتهاء بضمانات الأمن التي تريدها إسرائيل والتي يتوجب على القوات الدولية كما على الجيش أن توفرها… بأمر الارادة الدولية!
* * *
كل شيء هادئ عربيا، وبهذا يمكننا أن نتفرغ لترف الديموقراطية اللبنانية بلطائفها البديعة ومبتكراتها الاستثنائية والتي تدهش العالم وتثير إعجاب الأخوة العرب المحرومين من نعمة إبداء الرأي في أي شأن من شؤونهم حتى لا يخرجوا على إرادة السماء بإطاعة أولي الأمر فيهم..
هنا سنكتفي ببعض النماذج الباهرة، على أن نعود إليها تفصيلاً في الأيام اللاحقة والتي ستشهد حروب الديموقراطية التي لن تبقي ولن تذر..
1 أول ما يجب أن يقال انه لم يحدث في تاريخ لبنان الانتخابي ان كانت السلطة محايدة. دائما السلطة متهمة، والتهمة صحيحة، بأنها تتدخل مع وضد وبأنها تحاول فرض مرشحين ومنع آخرين من الوصول.
الاختلاف هو في درجة ذكاء هذه السلطة أو تلك، ومن الواضح أن السلطة القائمة بالأمر ليست شديدة البراعة في هذه اللعبة، ولذلك فهي تبدو مكشوفة أكثر مما يجب، ومطالبها نافرة بأكثر مما يجوز، سواء في الخصومة أو في طلب التأييد.
2 ككل شأن سياسي، لم يحدث في تاريخ السلطة في لبنان ان كانت الانتخابات »لعبة محلية« تحكمها وتضبط نتائجها قواعد التحالفات والمخاصمات التقليدية (شبه التاريخية) أو الطارئة. دائما كان ثمة قوى أقوى من »الأقوياء« في الداخل، وكان ثمة »ضعفاء« يقفزون فجأة إلى مواقع القيادة بكفاءة طارئة أو أنها لم تكن ظاهرة وتم اكتشافها في اللحظة الأخيرة فقلبت الوضع.
3 العناصر المؤثرة محددة دائما (مع اختلاف في التراتب): السلطة، المال، الولاء التقليدي المرتكز غالبا على الحساسيات الطائفية والمذهبية وإمكان استغلالها وتوظيفها في المعركة.
4 كل سلطة كانت، عبر مواقفها من »خصومها« في الانتخابات، تخلق بديلها، ولا يمكن القول »نقيضها« لأن الذين تولوا السلطة هم تقريبا أبناء طبقة واحدة.. فبشارة الخوري يسّر أمر الوصول لخصمه كميل شمعون، وشمعون أمّن الفوز لخصمه فؤاد شهاب، وشهاب لشارل حلو الذي استكمل »انتصاره« بسليمان فرنجية الخ..
5 ليس أكثر من الديموقراطيات في لبنان الذي »يتنوع« في كل شيء بحيث لا تصح فيه ديموقراطية واحدة..
إن صور المرشحين التي تغطي الجدران والأعمدة والأشجار والأرصفة هي نوع من الاستعراض »الديموقراطي« للطوائف والمذاهب في لبنان.
لكل طائفة ديموقراطيتها، ويتنافس المرشحون كل في التوكيد على ديموقراطيته بإعلان تمسكه بل تباهيه بانتسابه الطائفي او المذهبي… فثمة ديموقراطية مارونية، وديموقراطية سنية، وديموقراطية شيعية، ودرزية وكاثوليكية وإنجيلية الخ..
مَن كان غير طائفي فهو غير ديموقراطي وملعون إلى يوم الدين،
أما الارمن فلهم ديموقراطيتهم الخاصة يقررها حزبهم الاقوى و»يفرضها« على ديموقراطيي الطوائف الاخرى، فيضطرون الى قبولها صاغرين،
واذا شئنا الدقة فللطائفة الدرزية، مثلا، ديموقراطية محاصرة ومحصورة بين حزبيتين تقليديتين، بمعزل عن الاقلية والاكثرية… فهو انقسام داخل الانقسام الديموقراطي الطائفي العام،
وللشيعة ديموقراطيتهم المحددة والمحدودة بمساحة الاتفاق الاضطراري (والمفروض) بين »حزب الله« وحركة »امل«، واي شيعي خارج التحالف لا يكون شيعياً، وبالتالي لا يمكن ان يفوز في الانتخابات او يدعي انه ممثل شرعي للديموقراطية.
اما الموارنة فقد كان لهم تاريخياً »ديموقراطيتان« احداهما كتلوية والثانية دستورية، ومع التطرف الطائفي فقد ورثت الكتائب ومن ثم »القوات اللبنانية« الكتلوية (بمعناها القديم) في حين ورثت الشهابية »الدستورية«، قبل ان تخسر »شرعية« هذا التمثيل بتصادمها مع ديموقراطية الطائفة، بينما خسر (الحلف الثلاثي) شرعية التمثيل بخسارته رهاناته الديموقراطية في الحرب الاهلية.
واما السنة فقد افقدتهم نتائج الحرب الاهلية اعتدالهم وموقعهم كعنصر توازن، واجتاحتهم الحمى الديموقراطية ذاتها فدخلوا اللعبة من بابها العريض محاولين التعويض عن الربح الفائت بتأكيد الحضور الذي لا غنى عنه لانتظام اللعبة في طورها »الطائفي« الجديد… ولك ان تنسب »الطائف« هنا الى الطائفية او الى اتفاق الطائف الشهير، اذ لا فرق جدياً بين الامرين في اللعبة الديموقراطية اللبنانية.
العنصر الطارئ على الديموقراطية اللبنانية، ومن ثم على لعبة الانتخابات، هم فئة رجال الاعمال والمتمولين عموماً، الذين برزوا كظاهرة صاعقة غيرت في الوجوه من دون ان تغير في قواعد اللعبة..
فمنذ نهاية الحرب الاهلية ومع تجديد الديموقراطية، ومن ثم الانتخابات شهدت الحياة السياسية بروز فئة »رجال الاعمال«، الذين عادوا الى لبنان، بعد غياب طويل، من بعض المغتربات (افريقيا، اساسا) وبعض اقطار النفط العربي (الكويت، الامارات والسعودية وقطر الخ) بثروات طائلة زاد من تأثيرها واسبغ عليها مشروعية القيادة بعض المعطيات الفعلية في الحياة العامة بلبنان، بينها:
اولا قدر عظيم من الفراغ السياسي الذي خلفته الحرب الاهلية التي دمرت تقريباً او هي فضحت او كشفت او »قتلت« او استهلكت »الطبقة السياسية« احزاباً ومنظمات وشخصيات ومعها بعض البيوتات السياسية التي عجزت عن فهم خريطة التحولات فاندثرت او كادت…
ثانياً انهيار العقائد والايديولوجيات والشعارات التي كان لها وهجها في الماضي، خصوصاً بعدما التهمت الطائفية المؤسسات السياسية والتنظيمات الحزبية ذات التوجهات القومية والتقدمية والوطنية عموماً.
ثالثاً حالة البؤس الذي تدرج الى عوز والى ضائقة معيشية حادة في عصر السلم الاهلي، والذي غلَّب عند العامة منطق: فليأت »المليء« لعلنا نفيد منه، ولعله لا يطمع بما تبقى »فيقترض« بعض المال العام لحسابه او لمصالحه الشخصية.
لكن المال وحده لا يكفي مدخلا الى الديموقراطية اللبنانية، بل لا بد له ومعه الى شيء من الطائفية،
وهكذا برزت ظواهر »المال الشيعي« و»المال السني« الى جانب »المال الماروني« و»المال الدرزي« و»المال الكاثوليكي« و»المال الارمني« الخ،
كان زعيم اللائحة »الشعبي« في الماضي يبحث عن ممول، فصار بمقدور المال ان يشتري الزعامات الشعبية، وان يسخرها لخدمته… ودائماً مع حفظ التوازنات الطائفية ومراعاة الحساسيات المذهبية،
وهذه اضافة نوعية متميزة الى الديموقراطية اللبنانية الفريدة،
في ضوء هذا الجدول »بالمبادئ« و»القيم« التي تحكم الانتخابات اللبنانية يمكنك ان تتصور النتائج،
بوسعك الان ان تتفرغ لتهنئة الممثلين الشرعيين للديموقراطية اللبنانية في عهدها او طورها او تطورها الجديد،
اما النتائج الرسمية فتفاصيل يقوم على حماية سرها المكين الديموقراطي الاشهر في عصر السلم الاهلي »متعهد« جميع انواع الانتخابات البلدية والنيابية والجمعيات الخيرية، والفائز الاعظم في اي انتخاب يجري في اي زمان ومكان.

Exit mobile version