طلال سلمان

ديموقراطية خارج موسسات داخل عائلة

زحف جبل لبنان كله الى صناديق الاقتراع، أمس، مقدماً العنوان لما ستكون عليه معركة الانتخابات البلدية والاختيارية: نحن هنا، نحن سنمسك بشؤوننا مباشرة، نحن سنهتم بما لا يهتم به احد غيرنا، أو بما يتوجب علينا الاهتمام به لانه يعنينا أكثر مما يعني غيرنا،
نجح الناس في الامتحان، فأثبتوا حضورهم، ولو من باب حب الظهور والوجاهة، وقدموا صورة واقعية للمجتمع الأهلي.
اندفعوا نحو أقلام الاقتراع كما لم يحدث في أي يوم من قبل، وازدحموا أمامها لساعات، وتقدموا الى صناديق الامتحان، معلنين سلفاً التسليم بالنتائج، مع حرص شديد على الا يؤذي أحدهم منافسه بكلمة، مع التأكيد على ان »الخصومة« عارضة، وهي ستنتهي مع اعلان النتائج لتبقى أعلام الديموقراطية مرفرفة فوق سطح البلدية في كل مدينة وبلدة وقرية ودسكرة.
كان المنظر جميلاً، بل مثيراً، خصوصاً وانه مشتهى، وقد طال انتظاره.
ولعل الناخبين الذين انتبهوا بالأمس الى خطورة ما أتيح لهم ان يمارسوه قد حرصوا على الا يشوهوا هذه التظاهرة الديموقراطية الحاشدة بضربة كف: لعل كلاً منهم قد أدرك ان شرط الاعتراف به ان يعترف بالآخر. بل لعل كلا منهم قد أدرك ان الآخر، ولو خصماً، يؤكد حضوره هو، وان الخسارة مثل الفوز اعلان عن وجوده، وهذا يرضي الديموقراطية ونزعة الوجاهة وان »ضرب« الغرور الشخصي.
وهي كانت فرصة للسلطة أيضاً: فلا بأس من قدر من النزاهة حيث لا تؤذي النزاهة المصالح والمنافع!! ثم ان الجميع يتنافسون في حضنها وتحت سقفها، أليس اليها المآب والمطالب وأبرزها الأموال التي يفترض ان تكون موفورة ومرزومة في الصندوق البلدي المستقل لكي يشرف أبناء الديموقراطية ورموزها الجدد فيتسلموها؟!
لنسجل ان أبناء جبل لبنان، وبمعزل عن كل الملاحظات، قد قدموا نموذجاً راقياً عن ممارسة الحق الانتخابي، فعبروا عن تطلع الى الديموقراطية، والى تأكيد حضورهم والى التعبير المباشر عن تطلعاتهم،
والأهم: عن استعداد ممتاز للانخراط في الشأن العام، انطلاقاً من »الخلية« الأولى، بلداتهم.
ولنسجل ان أجيالا من المؤهلين، أطباء ومهندسين ورجال قانون وأساتذة جامعة وحملة شهادات عالية في اختصاصات علمية، قد تقدموا للانخراط في العمل العام، ولم يأنفوا (عكس النخب القديمة) من ان تكون البداية مواقع متواضعة كالمختار وعضو المجلس البلدي.
ولنسجل تلك الظاهرة الملفتة التي اكدها الاهلون في قرى العودة بحشدهم الذي لم يغب عنه احد تقريبا: اقترع الباقون للبقاء، واقترع المهجرون ليؤكدوا انهم عائدون!
ولنسجل ظاهرة اخرى طيبة هي اقدام السيدات والفتيات، وبنسب ملحوظة، على المشاركة الحماسية، ليس فقط كناخبات، وانما كمرشحات، وفي حالات كثيرة كن ينافسن الاعمام وابناء الخال إضافة الى مفاهيم الزمن العتيق.
كذلك فلنسجل ان الحشد ظل أكبر من الوزراء ومواكبهم، لم تأخذه الرهبة ولم ينحن اجلالا لاصحاب المواقع في السلطة، في حين كان يستجيب بغير تردد لتعليمات قوى الامن والجيش، ويظهر لها الود والتقدير وينوه بحيدتها وانضباطها.
* * *
يمكن الشهادة للسلطة بأنها قد ربحت قدرا من ثقة الناس، الا انه لا بد من التسجيل ان السلطة قد سقطت سقوطا ذريعا حيث أصرت على مواجهة الناس، وحيث احتشدت لتواجه بعض من صنفتهم خصوما موجهة اليهم اتهامات قاسية كادت تمس دورهم الوطني، كما انها تحدثت عنهم وكأنهم »اعداء« للديموقراطية لا يكفون عن مصادرة حريات الآخرين.. ويظل هذا صحيحا حيثما نجح واحد او اكثر من مرشحي السلطة!
حيث تحالف أطراف السلطة مؤكدين حضورها الثقيل، بوجهها الاصلي، اختار الناس مرشحيهم من خارج هذا التحالف غير المقدس،
وحيث انقسمت السلطة على ذاتها »انتصرت« بأن نالت تزكية لديموقراطيتها!
كان الناخبون منقسمين في ما بينهم، ولكنهم في مواجهة »السلطة الموحدة« تلاقوا على هزيمتها، اما حيث »غابت« السلطة او دللت على حيادها في ما بين الاشقاء فقد »قاتل« كل منهم بضراوة (وضمن الأصول) لهزيمة شقيقه.
* * *
لقد طوى اللبنانيون في يوم واحد السجل المثقل بالمآسي والغياب والشلل لخمس وثلاثين سنة ضاع أكثر من نصفها في الحرب الأهلية.
تصرفوا كمَن يعيد اكتشاف نفسه: مَن هو؟! من أين هو؟! ما علاقته بالمكان، وهل هو مجرد »عابر« ام انه صاحب الأرض وصاحب القرار في ما يتصل بمسقط رأسه، بلدته؟!
لعلهم خرجوا من »الزمان«. لعلهم رجعوا فيه القهقرى الى حيث كانوا قد تركوا الآباء والأجداد فلبسوا وجوههم ومفاهيمهم وتقاليد منافساتهم ومكايداتهم الصغيرة والحادة بأكثر من الخصومات العقائدية.
أحيانا، توارت الألقاب العلمية والكفاءات والخبرات العملية ليشع النسب، وارتدت »النخب« الى عائلاتها وعشائرها وغاصت عميقا في الانقسام »أجباباً« و»أفخاذاً« و»بطوناً«، وسبحت في بحور الخلافات التفصيلية حول موقع الوجاهة وهل يظل للوارث أم يمكن انتقاله للمؤهل والمستحق؟!
واحيانا تواجه الاخ مع اخيه، الخال مع ابن شقيقته، العم مع العم، وانشطرت العائلة من حول موقع المختار او رئيس البلدية او عضو المجلس البلدي.
واحياناً، أخفى معظم المرشحين بطاقاتهم الحزبية، وابتلع البعض مواقفهم السياسية، وكادوا يجزمون بأن علاقاتهم او ارتباطاتهم لا تتجاوز حدود »البلدة« التي اكتشفوا فجأة انها ركيزة الكون.
وفي مواقع محددة ومحدودة وحيث أعلن »الحزبيون« هويتهم الصريحة اجتمعت عليهم السيوف وكأنهم غُزاة هبطوا فجأة من القمر، او كأنهم يحملون جرثومة مرض معد، او كأن تقدمهم للانتخاب يشكل اعتداءً صريحا على المؤسسة العائلية العريقة: كرامتها وجدارتها بالتعبير الأصيل عن التقاليد الديموقراطية العريقة!
إنها ديموقراطية خارج المؤسسات الطبيعية، وداخل العائلات.. وبالأصوات هذه المرة!
* * *
الشوق الى الديموقراطية، بأي قدر وعلى أي مستوى، عظيم،
وهو في الأرض العربية، من حول لبنان، أعظم،
تصوروا ان الديموقراطية قد انتصرت على جمال كلوديا شيفر! .. وان الغارات الاسرائيلية لم تستوقف أحداً، ولعلها في غد الجنوب والبقاع ستزيد من إقبال الناخبين على الصناديق،
ربما لأنهم هناك سيؤكدون ان الذي بذل دمه من اجل الأرض، الوطن، الامة، هو الأعرق في الديموقراطية، وهو الأعظم ايمانا بها كواحد من أمضى أسلحة المواجهة مع الاحتلال، تماما كما هو في مواجهة الانحراف والطغيان او التفرد او الاستعلاء او الاحتكار او الفساد في الداخل!

Exit mobile version