طلال سلمان

ديموقراطية توافق بين طوائف على سلطات خارج دولة

مع الكلمات الأولى بين أي «متحاورين» حول المعركة الانتخابية الجاري «تنظيمها» في لبنان، يسهل الاكتشاف أنها ليست «انتخابات» بالمعنى المعروف للكلمة، ولا أثر للديموقراطية فيها، وليس لنتائجها التأثير المتوقع على سياق الأحداث إلا بالمعنى السلبي.
أي متصد للحديث يباشر كلامه بالقول: لا انتخابات في المناطق ذات الأكثرية السنية، أو ذات الأكثرية الشيعية، أو التي يقرر النفوذ الدرزي نتائجها، حتى لو لم يكن الدروز أكثرية عددية فيها..
وأي محلل سياسي لمجريات هذه المعركة التي يصورها البعض وكأنها حرب تقرير المصير، يخلص إلى استنتاج محدد: إنها معركة داخل المسيحيين عموماً، وبقيادة الطائفة المارونية، ومن أجل تحديد مرجعيتها السياسية، لا أكثر ولا أقل..
لكن الطوائف في لبنان «دولٌ».
وكثيراً ما تلتقي في طائفة واحدة أكثر من «دولة».
وبهذا المعنى تكتسب «المعركة» طابعاً دولياً، قد تكون عناوينه طائفية أو مذهبية، ولكن أهدافه تتصل بطبيعة الصراع المفتوح منذ زمن بين القوى الدولية على هذه المنطقة القريبة التي يبدو أن أهلها قد غابوا عنها، أو أنهم قد غابوا عن الوعي بمسؤوليتهم عنها، حاضراً ومستقبلاً ومصيراً.
بهذا المعنى أيضاً، ولو عبر الكاريكاتور، تصبح الرشوة بشاحنة زفت لرصف طريق داخلي في حي ضيق في قرية تكاد لا تعثر عليها فوق خريطة لبنان الكبير، مسألة خطيرة قد تهدد العلاقات الدولية!
الانتخابات، إذاً، شأن ماروني بحت، فالمسيحيون من غير الموارنة وفق هذا المنطق السائد، هم مجرد «بيادق» أو «وسائل إيضاح» لتحديد الزعامة المارونية، وبالتالي المسيحية الأولى في لبنان.
في ضوء هذه «الحقيقة» يمكن الحكم على مدى الديموقراطية في الانتخابات النيابية، وهل هي كاملة ومستوفاة الشروط، أم هي مطعون في صدقيتها وبالتالي في «شرعية» الانتخابات جميعاً!
ولو كان اللبنانيون يملكون ترف الاستمتاع باللطائف والطرائف والبدع والابتكارات، لهان الأمر، لكن أحوالهم أخطر وأدق من أن يندفعوا خلف أحلامهم أو أوهامهم بالإصلاح والتطوير والتغيير والتقدم عبر هذه الصندوقة السحرية التي تعجز عن استيعابها، بل تبدو وافدة ودخيلة عليها ولا علاقة لها بما هم يفكرون أو يتمنون.
إن المناطق طوائف، والطوائف لوائح، واللوائح ذات قداسة لاتصالها بمكانة الطائفة ودورها.
ثم إن الطوائف دول، والدول مصالح، والمصالح لا تهتم كثيراً بالحدود بين الطوائف، وإن هي اهتمت باستثمارها جميعاً، وفي ما يخدم مصالحها بطبيعة الحال، وبمعزل عما يصيب «الوحدة الوطنية» من شروخ وتصدعات..
كذلك فإن السلطة محاصصة بين الطوائف، والمحاصصة تلغي الحكم، وإلغاء الحكم يلغي الدولة، وإلغاء الدولة يزيد من حضور «الدول»، الأجنبية طبعاً، وقبل ذلك وبعده: يلغي «المواطن»؟
كيف تكون ديموقراطية حيث لا مواطن؟!
وكيف تكون انتخابات حيث الطوائف تلغي المواطنين ثم تلغي معهم «الدولة»، وإن هي تقاسمت مواقع «السلطة»؟
ربما لهذا يصعب القول إن العرب يعرفون، في تاريخهم الحديث، «الدولة»، وإن كانوا قد تعرّفوا على أنماط عديدة من السلطات اللاغية للدولة بما هي التجسيد الحقيقي لوحدة الأرض وأهلها الذين ولا مرة كانوا «مواطنين».
لا مواطن في لبنان.
وهذه الانتخابات أداة نفي جديدة لوجوده.
هو بعض «رعية» في «طائفة» هي بعض أداة لسلطة مركبة يتوزعها الطائفيون وهم يجتهدون في صراعهم لإلغاء الدولة بزعم أنهم «بديلها».
تكفي العودة لقانون انتخابي سقيم وضع، بالاضطرار، قبل أربعين عاماً لقياس مدى «تقدم» اللبنانيين في اتجاه الديموقراطية!
تكفي المجاهرة بأن أكثر من ثلثي اللبنانيين لن يكونوا «ناخبين» وإن هم سعوا إلى صناديق الاقتراع فأودعوها «أصواتهم»، للقول إن ما سوف يجري في السابع من حزيران المقبل لن يكون إلا عودة إلى ما قبل قانون /1960/، وصولاً ـ ربما ـ إلى سياق /1860/ المعروف.
وأكثر ما يكشف الشعور بالذنب، عند بعض الذين تبقى عندهم شيء من الضمير من «النواب» الحاليين، هو إقدامهم الحماسي الكاريكاتوري على الحضور الكثيف والتصويت بالإجماع على أن يتضمن أي قانون جديد للانتخابات نصاً صريحاً يسمح لمن بلغ الثامنة عشرة من عمره أن يمارس حقه الانتخابي..
إنها كفارة متأخرة عن جريمة ترتكب اليوم، وقد ارتكبت مرات عديدة بالأمس..
فهذا الفتى الذي بلغ الآن الثامنة عشرة من عمره هو ضحية ناطقة وشاهد عدل على فساد النظام الطائفي، إذ إنه نشأ منعزلاً أو معزولاً عن الآخرين، من غير طائفته، هو يكرههم من قبل أن يعرفهم، وهم مستعدون لقتاله ـ في الجامعة أو في المكتب أو في المدرسة أو على الطريق لا فرق ـ بمجرد أن يعرفوا طائفته أو مذهبه المغاير.
… وبطبيعة الحال فإن الفتيان بعمر أربعة عشر عاماً اليوم سيكونون ناخبي المستقبل، وسيذهبون إلى صناديق الاقتراع في العام /2010/ كمقاتلين وربما كانتحاريين ضد «إخوتهم في الوطن» إذا ما استمر المناخ الطوائفي ـ المذهبي سائداً، كما هي الحال الآن..
لا ديموقراطية اليوم في الانتخابات المحصورة بطائفة واحدة وبهدف إعادتها إلى حظيرة الخوف من الآخرين التي أوصلها ذات يوم إلى تحمّل تهمة «الانعزال» التي كانت مرادفة للنزعة إلى احتكار السلطة عبر النظام القديم.
ولا ديموقراطية غداً في «النظام الجديد» الذي عجز أهله عن إصلاحه، فخافوا وتراجعوا حتى أمام إضافات بسيطة كإنشاء مجلس للشيوخ واتخاذ القرار بإلغاء الطائفية السياسية..
وحسناً فعل رئيس الجمهورية باستذكار هذين المطلبين المؤثرين،
ولكن أركان النظام الطوائفي الذين عطلوا العمل بهما طوال عشرين سنة ليسوا اليوم أضعف مما كانوا 1989…
فلنأمل أن ننقذ شبيبتنا الذين سيذهبون للانتخابات بعد أربع سنوات، أو أن نفتح لهم باب الخلاص، عبر الافتراض أن المجلس الجديد قد ينجز ذلك الوعد المنسي..
ونأمل ألا نكون نطلب الشيء من فاقده.

Exit mobile version