طلال سلمان

ديموقراطية بدوية في دولة فوق بركان

يسألونك عن لبنان في اليمن بمنطق تتغلّب السياسة فيه على السياحة، ويظهرون اهتمامù بمستقبل الكيان والصيغة السياسية لنظام الطوائف أكثر من اهتمامهم بالفولكور ومرثيات الماضي الجميل.
أكثر ما يهتمون له في لبنان هو همهم الضاغط الآن في اليمن: استعادة الوحدة الوطنية وتوطيدها وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها بما يعزّزها ويستجيب لمقتضياتها.
ليسوا طائفيين في اليمن، لكن الأجنبي كما الجار الطامع قد يغري بعض الأطراف السياسيين باستخدام هذا السلاح الفاسد، ولو تكتيكيù… ولطالما حصلت محاولات لاستخدامه، لكن يمنية اليمنيين ظلّت منيعة.
} يقول الدكتور عبد الكريم الأرياني بلهجة تختلط فيها السخرية بالجد:
أرض اليمن تشهد كم تعرّض في تاريخه لفورات البراكين وللزلازل والفيضانات العاصفة. إننا نعيش فوق بركان. هذه حقيقة وليست مجازù، مع أن البركان قد انطفأ منذ زمن بعيد. الشتاء عندنا قارس البرد لكن لا أمطار فيه، أما الصيف فثلاثة شهور من المطر في ظل حرارة مرتفعة نسبيù.
تلمع ابتسامة في العينين الواسعتين اللتين تحتلان نصف الوجه النحيل: كلانا الآن، لبنان واليمن في مرحلة ما بعد الزلزال، وهي أقسى المراحل وأصعبها، فالخطأ فيها قاتل.. لا أنت تستطيع الاطمئنان إلى ثبات الأرض تحت قدميك، ولا تستطيع أن ترجئ كل شيء خوفù من الارتجاج أو الانهيار. لا بد من المغامرة. لا بد من القرار. لا بد من التورّط في مشروع بناء الدولة. لا بد من هدنة طويلة حتى مع الخصم. لا بد من تجاوز الحرب. وها نحن نسعى مع جيراننا السعوديين إلى مثل هذه الهدنة. سنضع على الرف ملفات المشكلات المعلقة، ومعظمها موروث، وسنسعى بقلب مفتوح، وبعقل مفتوح إلى إعادة صياغة العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة. كلانا بحاجة لأن يسمع من الآخر ما يطمئنه. لسنا ضعفاء بحيث نخاف من العلاقة، وليسوا متفوقين في موازين القوى بحيث يرفضونها. عندهم أسباب ذاتية للقلق والاضطراب، وعندنا من هذه الأسباب أكثر. فلنحاول إذù التعاون حيث تفرض مصاعبنا المشتركة أن نتعاون.
} أما »صهر لبنان« الدكتور محمد سعيد العطار فشهادته مجروحة، وخصوصù أنه درس في لبنان وعاش فيه بعض سنوات الهوى والشباب والأمل المنشود، يقول:
مشكلاتنا مثل مشكلاتكم، الآن، اقتصادية أساسù، ولو توافرت السيولة الكافية لأمكن التغلّب على المشكلات السياسية.
يضيف المسؤول اليمني المتميِّز بثقافته الفرنسية الواضحة، وبخبرته الواسعة في الشؤون العربية والدولية نتيجة عمله الطويل مع الأمم المتحدة:
أما نحن في اليمن فقد وصلنا متأخرين. وأما أنتم فقد كنتم بين السابقين، لكن الحرب الطويلة فرضت عليكم التراجع. ونحن نقول مثل قولكم المفجع: لو أن ما أُنفق على الحروب توفر لنا لبناء دولة الوحدة والسلام لكنا حققنا وإياكم الكثير على درب التقدم. مع ذلك علينا أن نحاول، ولو بقدراتنا الذاتية، مستفيدين من تمسك شعبنا بوحدة اليمن واستعداده للتضحية في سبيلها، أقصى ما نستطيع. وقيادتنا الآن تسلك سياسة المصالحة مع الداخل والخارج. تخفّفت من الأحقاد وانطلقت نحو الهدف الأصلي: توطيد أركان السلم الأهلي، ومحاولة بناء دولة عصرية ما أمكن. والى جانب الرئيس علي عبد ا” صالح يلعب الدكتور عبد الكريم الأرياني دورù متميزù مع سياسة المصالحة هذه التي نؤمن بها ونعمل لها جميعù. كفانا حروبù. كفانا ضحايا وجراحù وخسائر تزيدنا فقرù على فقر. إن عدد سكان اليمن قد بلغ حسب التعداد الذي أعلن بالأمس نحوù من ستة عشر مليون مواطن. ومعدل النمو في السكان قد يكون الأكثر ارتفاعù في الوطن العربي، إنه في حدود 4،3$ سنويù. هذا معناه أن عدد سكان اليمن مرشح لأن يتضاعف خلال خمس وعشرين سنة تقريبا. إذù فلا بد من الالتفات إلى مشكلاتنا وتوفير الحلول لها، وبإمكاناتنا الذاتية إلى حد كبير. لنترك أوهام المساعدات والهبات ولنعمل. تلك هي الطريق. قد نستفيد من نصائح البنك الدولي ومن قروضه، وقد يساعدنا ترشيد صندوق النقد الدولي، لكن اليمنيين هم المطالَبون بداية وانتهاءً بأن يعالجوا مشكلاتهم وأزماتهم بأنفسهم. أما القروض فلا تبني دولاً. ثم إن المراهنة على دخل النفط هي مغامرة وربما مقامرة. إن إنتاج اليمن لن يزيد كثيرù عن معدلاته الحالية في المدى المنظور. أي أنه لن يعطينا كعملة صعبة أكثر من أربعمئة مليون دولار في السنة، وهذا المبلغ قد يسد شيئù من العجز لكنه لا يكفي لتحقيق الطموحات.
} يقف الناصريون، بطبيعة الحال، على يسار النظام. وهم قوة سياسية يحسب لها حساب برغم أنهم تعرضوا لعملية تقسيم مستمرة لا يبرّئون النظام من التورّط فيها، في حين يتهمهم النظام بأنهم ذهبوا أبعد مما يجب في التحالف مع الحزب الاشتراكي فكادوا يتجاوزون الخط الأحمر.
الناصريون الآن أربعة »أحزاب« أو تنظيمات رسميù، لكن الحزب الجدي هو التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، الذي يتولى عبد الملك المخلافي أمانته العامة، كخلف للدكتور عبد القدوس المضواحي أحد »التاريخيين« بين الناصريين اليمنيين.
وفي ظل الديموقراطية اليمنية الفريدة في بابها، يمكن ان تسد الطريق امام هذا الحزب للوصول الى مجلس النواب، في حين يكون رئيس الجمهورية »على الخط« مع امينه العام، ودائم الاتصال ببعض البارزين من قياداته للاطمئنان على اوضاعهم الصحية والاجتماعية.
على ان المجاملات لا تلغي الخصومة السياسية، و»التجمع اليمني للإصلاح« لا يخفي خصومته للناصريين، ويضعهم في سلة واحدة مع »المرتدين« من الاشتراكيين الذين يفضل دائما ان يسمّيهم الشيوعيين. ولو ان الأمر بيده لكانت الحرب اشد بين »الدولة« وبين مختلف فصائل المعارضة المنقسمة الآن بين »ادم« و»موج« والكتكتل الوطني. وثمة من يتندر بأن بعض المعارضة يستظل بالدولة ويعمل لها في نطاق معارضة المعارضة باسم المعارضة وبشعاراتها. اي ان ثمة »معارضة حكومية« و»معارضة شعبية« اضافة الى تلك »المعارضة المذهبة« المقيمة في لندن والتي يجتمع في حضنها معظم انصار السعودية أو »حلفائها«، ممن تمولهم بعض اقطار الخليج اضافة الى »الهبات الملكية« التي تصلهم بانتظام تعويضا عن خسارتهم الحكم ومغامرة الانفصال.
} فأما الحزب الاشتراكي، الذي كان الاكبر والاقوى والافضل تنظيما في اليمن بشمالها والجنوب، فهو الآن جسم معطوب ومقطوع الرأس.
ان شرط مستقبله ان يدين ماضيه، وشرط استمرار التنظيم ان يتبرأ من القيادة ومن التجربة البائسة التي انتهت بها الى نحر الحزب وتهديد سلامة اليمن وتدمير الحزبيين عموما.
بضعة شهور لا تكفي لمواجهة آثار الزلزال، وخصوصا ان الانهيار قد سمح لأيادٍ عديدة ولقيادات كثيرة ان تعبث بالحزب والحزبيين. وبطبيعة الحال، فإن »القوى النافذة« داخل السلطة لم تبتعد خارج الحلبة. ولعل الكثير من الحزبيين قد انتهوا »لاجئين سياسيين« عند المؤتمر، وربما كان بعضهم قد أطلق لحيته واندسّ في صفوف الاسلاميين داخل »الاصلاح« الذي يشكل الآن بعبعاً للقوى »العلمانية« جميعا، ولا يعرف احد بالضبط هل هو من يستخدم السلطة ام ان السلطة تستخدمه، خصوصا مع تماهي الحدود بين هذا التنظيم الذي اقيم على عَجل وبتأثير الشعور بالخطر من اجتياح محتمل للاشتراكي للحياة السياسية في البلاد.
} في مجلس النواب ثلاث قوى سياسية كبرى: المؤتمر، الاصلاح، الاشتراكي، الى جانب بعض المستقلين الذين ربما كانوا يمثلون فعليا اكثر من تنظيم.
لكن الحركة مكشوفة في المجلس الذي يرأسه شيخ مشايخ حاشد عبد الله بن حسين الاحمر: لكل لوحته تحمل اسمه ورقمه. منظر يذكر بالمؤتمرات الشعبية في ليبيا، لكن الفارق ان اللوحات هناك بالارقام فقط اما الاسماء فممجوجة لحكمة لا يعرفها الا اهلها.
وفي المجلس، كما في المنتديات، كما في الشارع، يحاول اليمنيون ان يتعلموا الديموقراطية بمفهومها »الغربي«، والمختلف كثيرا عما ألفوه في حياتهم القبلية وحتى الحضرية.
»لن نستورد خبراء ليعلمونا الديموقراطية. علينا ان نتعلمها بالممارسة، مستندين الى تراثنا الاسلامي وذلك الذي يعلمنا اياه تاريخنا اليمني«.
هكذا يقول علي عبد الله صالح، مؤكدا ان تلك اقصر الطرق لإشراك الشعب في القرار.
وبرغم حدة المنازعات والخصومات، فإن ما لا بد من التنويه به هو ان لا سجون ولا معتقلات يُحشد فيها اصحاب الرأي المخالف في اليمن.
ويؤكد بعض العاملين في بعثة الصليب الاحمر الدولي انهم وجدوا في السجون بعض المخالفات او النقص في توفير الشروط الصحية، لكنهم برغم تدقيقهم الشديد لم يجدوا من يمكن تصنيفه كسجين او معتقل بسبب رأيه السياسي. وفي هذا شهادة ممتازة لعلي عبد الله صالح ونظامه الذي يراه بعض خصومه »حلفا غير مقدس« بين المؤسسة القبلية والمؤسسة العسكرية… وان مثل هذا الحلف لا يمكن ان ينهض بأعباء بناء الدولة، لا سيما ان هو كان يراهن على دعم قد توفره له السعودية.. فأعظم هموم هذه المملكة المذهبة ان تنشأ الى جوارها دولة قوية في يمن قوامه ستة عشر مليون ذكي ومجرب وفقير وليس لديه الكثير ليخسره.
* * *
بين »نُقُم« و»عيبان« تتمدد صنعاء المزدحمة الآن بالمليون من سكانها، فوق القعر من فوهة بركان اخمدته عاديات الزمان منذ وقت بعيد،
وبين هذين الحدين، ايضا، »نُقُم« بالقاف المثقّلة و»عيبان« تمتد السياسة اليمنية فوق فوهة بركان آخر تظنه خامدا لكنه في واقع الأمر غائر في الاعماق وقابل للتفجر مجددا واطلاق حممه وتهديم كل شيء في أية لحظة، ومن دون قدرة على ضبط التوقيت، وان كان التحوط قائما باستمرار لحصر الاضرار.
ومطر الربيع في صنعاء »مزاجي«، كما الكثير من ضروب السياسة، وله اوقات معلومة و»طقوس« خاصة: هو لا ينهمر، في العادة، الا بعد الظهر، ولمدة قد تزيد على الساعة ولكنها لا تتجاوز الساعتين… يسقط غزيرا ومفاجئا، لكنه سرعان ما يتوقف فجأة كما بدأ، وتستعيد السماء (والسياسة؟) صفاءها، ولكن بعدما تكون العاصمة قد غرقت (مع سكانها) بالوحل والحصى والحجارة والاشياء المهلمة تجرفها »السايلة« وهي تندفع من فوق ذرى الجبلين هادرة عبر الاودية والشعاب والمجاري الطبيعية القديمة التي احتلها »البناء العشوائي« في مواضع كثيرة.
لكأنما كل شيء في صنعاء اليوم قيد التجربة والاختبار: ما هو قابل للحياة يبقى، وما هو اضعف من الطبيعة وعاديات الزمان يندثر وان خلّف ندوباً وبعض الاوجاع.

Exit mobile version