طلال سلمان

دول مانحة دولة مانعة

في البدء لا بد من تصحيح بعض الأخطاء في التسمية: »الدول المانحة«، للتخفيف من الأوهام التي يمكن أن تستولدها، وهي مؤذية،
تكاد التسمية (كما يستخدمها العرب) تُظهر الدول المعنية »جمعية خيرية« وتبرئها من السياسة ومن الغرض، وهي بالقطع ليست كذلك،
ثم ان التسمية تكاد تجعل هذه الدول صاحبة قرار فوري، كأي محسن كريم، تنظر في أوضاع الدول المحتاجة إلى مساعدة فتشفق عليها أو ترأف بها »كعزيز قوم ذل« ويكون قرارها تعبيرا عن عاطفة، فإذا هي لم »تقتنع« ردت الطلب بقسوة ورفضت أخذ أوضاع »الدول المحتاجة« بعين الرحمة والرأفة،
والتسمية تطمس بالتالي أن ثمة »دولة مانعة« لها حق الفيتو، فإن هي أرادت فأوعزت تمت تلبية إشارتها الكريمة فإذا الدول والمؤسسات الدولية والمصارف الكبرى وبيوتات الاستثمار وصناديق المعونات تندفع بحماسة فتدفع بسخاء،
أما إذا امتنعت »الدولة المانعة« عن إصدار الأمر بالدفع فإن الدول المانحة سوف تعتذر بضيق ذات اليد، أو بأن التعويضات المدفوعة لإسرائيل عما لحق باليهود فيها من بداية التاريخ وحتى الأمس القريب قد استنزفتها، أو اكتفت بإحالة »الدولة المحتاجة«، مثل لبنان الى أهله وذوي قرباه لأنهم أولى بالمعروف.
هذا في الشكل، أما في المضمون فلا بد من الاعتراف بأن معركة لبنان من أجل الحصول على خيرات الدول المانحة، تكاد تكون في مثل صعوبة معركة تحرير الأرض التي كانت محتلة، إن لم تكن أقسى وأمرّ،
ذلك أن بعض هذه الدول التي كانت ترى في الانسحاب الإسرائيلي نصراً سياسياً لإيهود باراك، يقويه في وجه سوريا أساسا، ومن ثم في وجه الفلسطينيين، إضافة الى الأرباح التي يوفرها له في »الداخل«، فوجئت بأن النتائج لم تكن كذلك، بل لعلها جاءت معاكسة للرغبات أو للتمنيات..
لقد نجح لبنان، شعبا ومقاومة، في امتحان التحرير، فلم تقع فتنة كان يراهن عليها الاحتلال، ولم تصطدم الدولة بالأمم المتحدة بما يعطل التنفيذ الكامل للقرار 425، برغم تسرع المنظمة الدولية في تبني الادعاءات الإسرائيلية حول إنجاز الانسحاب، ثم اضطرارها الى الاعتراف بالتسرع والعمل على إزالة الخروقات..
كذلك فإن سوريا تصرفت برصانة توازي حرصها على لبنان وحماية إنجاز التحرير بالمقاومة،
أما الفلسطينيون فقد أفادوا إفادة محققة، إذ ان النموذج اللبناني الناجح قد شد من أزرهم وقوى من مركزهم التفاوضي وأضعف منطق التخاذل واستسهال الحلول بالتنازل، ففشلت قمة كامب ديفيد، لكن المفاوض الفلسطيني نجح في استعادة بعض اعتباره، وهذا يساعده في جولات حرب التفاوض المقبلة.
نعود إلى الدول المانحة وموقفها من لبنان، وبالذات موقف »الدولة المانعة«: لقد دفعت هذه الدول مئات الملايين من الدولارات لحماية التنازلات التي أقدم عليها المفاوض الفلسطيني في أوسلو،
ودفعت المليارات، أو هي ستدفع المليارات »تعويضا« لإسرائيل عن إجلاء قوات احتلالها عن الأرض اللبنانية، وغدا عن إزالة بعض مستوطناتها المقامة بقوة السلاح على الأرض الفلسطينية (أو السورية)…
ومن حق لبنان أن يطالب بتعويضه الخسائر الناجمة عن الاحتلال، وهي مخيفة بدءاً بالأرواح (عشرات ألوف الشهداء والجرحى) مرورا بالمرافق العامة (مدارس، مستشفيات، كهرباء، مياه، جسور، طرقات الخ)، وصولاً إلى الربح الفائت لو أن دورة الحياة استمرت في وتيرتها الطبيعية في تلك المنطقة المنكوبة التي تحكَّم الاحتلال بحياة أهلها وأمنهم وأرزاقهم طوال 22 سنة، عاصيا طوال تلك السنين على إرادة المجتمع الدولي الذي تشكل »الدول المانحة« نخبته و»طليعته« وقمته الاقتصادية.
لقد جال سفراء هذه الدول المانحة في المنطقة المحررة، ولا بد أنهم لاحظوا الفروقات الهائلة بين أوضاعها عموما وأوضاع ما يقابلها من المناطق في الجانب الآخر من الحدود.
هذه الفروقات ليست ناجمة عن حيوية الإسرائيلي وكسل اللبناني، أو عن عبقرية الإسرائيلي وتخلف اللبناني… بدليل ان حركة العمران و(الاخضرار) كانت رفيق الرحلة للسفراء على امتداد الطريق التي سلكوها من بيروت الى الجنوب حتى حدود الاحتلال،
ان هذه الفروقات هي بعض الثمن الفعلي الذي دفعه لبنان على امتداد 22 سنة من تخلي المجتمع الدولي أو تقاعسه عن تنفيذ إرادته مجسدة بالقرار 425،
أي انه لبنان دفع ثمن الانحياز لإسرائيل على حساب أمنه ومستوى حياة شعبه، بل حياة هذا الشعب..
ولو حسبنا ما دفعته الأمم المتحدة كرواتب ومكافآت وتعويضات لجنودها وموظفيها الذين جاءوا تحت عنوان تنفيذ القرار 425، لوجدنا انها تكفي لجعل لبنان جنة،
ومع التقدير لهذه القوات التي كانت معظم الوقت تعيش آلام اللبنانيين وأحزانهم، وتموت معهم أحيانا، وتجوع معهم في بعض الحالات، فإن إسرائيل كانت باستمرار هي من عطّل قدرتهم على تنفيذ واجبهم،
وباختصار، فإن الدول المانحة، وعلى رأسها تلك »الدولة المانعة«، أمام امتحان سياسي جدي الآن: فهي إن امتنعت عن مساعدة لبنان ستبدو وكأنها تعاقبه على مقاومته الاحتلال حتى إجلائه،
إن إسرائيل هي المطالبة أساسا بالتعويض عن الجرائم والخسائر الناجمة عن احتلالها،
لكن من حق لبنان أن يطلب المساعدة من هذا المجتمع الدولي الذي لم يستطع لا حمايته من الاحتلال، ولا إخراج الاحتلال من أرضه تطبيقا لقرار يفترض انه صدر قبل 22 سنة تعبيرا عن إرادته.
وهي فرصة لتثبت لنا، ولسائر العرب، تلك »الدولة المانعة« حسن نواياها، بدل ان تؤكد لنا ولكل العرب سوء تلك النوايا بجملة التأديب التي تقودها ضدهم لأنهم… »حرّضوا« الفلسطيني على التمسك بالحد الأدنى من الأدنى من حقوقه في أرضه، فكيف لو أنه تمثل بالنموذج اللبناني؟!

Exit mobile version