يتبدى الوطن العربي، في هذه اللحظات، وبأقطاره جميعاً، مخلع الأبواب، مفتوح النوافذ على الرياح جميعاً، الأميركية والاسرائيلية والتركية، ومعها الروسية والايرانية وان اختلفت الأسباب والغايات.
ممكن القول بالتالي ومن دون خوف من سوء التقدير أن الوطن العربي وبأقطاره جميعاً في حكم المحتل، إرادته مرتهنة، وقراره ليس في يد أهله.
ان الحكم في معظم الأقطار عسكري في أيدي قادة سابقين أو لاحقين للجيش والقوات المسلحة، أو الملك أو أمير وارث قد أضاف الى النسب رتبة القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة.
المجالس النيابية، في الغالب الأعم، معينة، والحكومة هي الأداة التنفيذية لصاحب الأمر، ملكاً كان أم رئيساً أم أميراً لدولة من غاز..
أما على المستوى الفكري فالأنظمة جميعاً تعادي الحرية الفكرية، وحق الإعلام في تقديم صورة الواقع أو ـ أقله ـ تخاف منها وتحاول منعها من التمدد والانتشار، فاذا عاند بعض “المناضلين” من المؤمنين بضرورة العمل السياسي من أجل التغيير فان وسائل “النظام” لقمعهم متيسرة وغير مكلفة: المعتقلات والسجون أو الضغط عليهم لكي يسعوا الى تأشيرة دخول الى أية دولة أجنبية تقبلهم.. وهكذا تخسر البلاد بعض كفاءاتها التي كان يمكن أن تسهم في التغيير الى الأفضل.
اندثرت ـ بالتقادم أو بالقمع أو بحصار العدو ـ الأحزاب والعقائد السياسية التي كانت تنادي بالتغيير، سواء منها “القومي” أو “التقدمي” أو “صاحب الشعار الديني”: الأحزاب الشيوعية، حزب البعث العربي الاشتراكي، حركة القوميين العرب، وما تفرع منها من تنظيمات ترفع شعار التحرر (فتح، الجبهة الشعبية ـ الجبهة الديمقراطية.. وحماس).
صيرت الشعوب قطعاناً من العزل و”الرعاة” مسلحون حتى أسنانهم: من خرج من القطيع وعليه حكم عليه بالإلغاء والتفكك ليعودوا أفراداً مطيعين، ولو بالخوف، ولا عصاة.
.. وظلت القضايا المقدسة تدوي في شوارع الفراغ، ولا من يستجيب..
فرض على من يطمح أو يرغب في العمل السياسي أن ينضوي في حزب سياسي، أو حتى في جمعية، خصوصاً بعدما اغتيلت الأحزاب بالسلطة أو سقطت بالتقادم، أو بالحظر وكأنها “جمعيات سرية”، وبالتالي انقلابية بالضرورة.
ما تبقى من تسميات حزبية هي لهياكل تآكلت بالسلطة أو بمرور الزمن، ومن الأكرم لتاريخها أن تنسى بوصفها بعض الماضي ليس أكثر.
ليس “في الشارع” إلا حزب السلطة، وهو مجموعات من المنتفعين والموظفين البلا تاريخ، مع حرص على التبرؤ من التحزب أو حتى الاهتمام بالسياسة عموماً.
كيف إذن، لا تصبح السفارات “مرجعيات سياسية” في البلاد التي تحرص على أفضل العلاقات مع “عواصم القرار الكوني” وفي طليعتها واشنطن..
وكيف لا تصبح “العمالة للأجنبي” نشاطاً مشروعاً، وممارسة طبيعية للعمل السياسي “وفق المبادئ الديمقراطية”.
وكيف يمكن، في ظل هذه “القيم الجديدة”، تمييز “الوطني” من “العميل” والمناضل من أجل التحرر والتحرير من جماعات السفارات الأجنبية ومخابرات دول الاحتلال في الماضي أو الهيمنة على الحاضر والمستقبل.
وكيف لا يفرغ الشارع من جمهور الرافضين لسياسة التبعية والمعترضين على هيمنة النفوذ الأجنبي على القرار الوطني… بينما “الدولة” جميعاً على الضفة الأخرى؟
وبالتالي فليست مصادفة أن تختفي الأحزاب المنادية بالتغيير والتحرير، وأن تندثر النقابات العمالية لتحل محلها هيئات حكومية تعمل بالأمر من دون أية علاقة بهموم الناس، سواء كانوا من العمال والفقراء أم من أبناء الطبقة الوسطى..
الطريف أن البلاد العربية، بمعظمها، تشارك بوفود رسمية في المناسبات والاحتفالات الرسمية، على المستوى الدولي، بعيد العمال، أو بأعياد الاستقلال أو التحرر من الاستعمار واستعادة حرية الوطن واشعب.
لقد “ابتكر” الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ذات يوم من صيف العام 1963، “القمة العربية” التي انعقدت، لأول مرة، في القاهرة، ثم في المرة الثانية في الاسكندرية.. واستمر هذا التقليد بعد رحيل عبد الناصر، .. ثم كان القرار بنقل مقر الجامعة الى تونس مؤقتاً، احتجاجاً على زيارة السادات الكيان الاسرائيلي وخطبته الشهيرة أمام الكنيست، التي نادى فيها “بالسلام”.
ولقد عاشت هذه “القمة”، التي سرعان ما أفرغت من مضمونها التضامني الأصلي، وصار مجرد لقاء بين عشاق غلبهم الشوق من الرؤساء والملوك والسلاطين والأمراء العرب، غالباً ما تعقد من دون نصاب، ومن دون قرارات جدية وقابلة للتنفيذ، إلا في ما يتصل “بالسلام” مع العدو الاسرائيلي تحت غطاء “الحل السلمي للصراع العربي الاسرائيلي”.
فخلال السنوات الأخيرة، تهاوت دولة العراق بعد الاحتلال الأميركي الذي اتخذ من طغيان صدام حسين صفة الوكيل الشرعي عن الشعب العراقي واجتاح أرض الرافدين ناشراً الفوضى، موقظاً الفتنة في أرض السواد التي غدت عملياً بلا دولة وأرض صراع مفتوح بين الشيعة والسنة والعرب والكرد، وعصابات “داعش” التي احتلت الموصل وأنحاء أخرى من العراق (وسوريا)، وفرضت الإرهاب بالقتل المجاني والإعدامات بقصد نشر الرعب في صفوف العراقيين..
ومن أسف فقد لاحت شبهة تواطؤ أميركي وتركي مع “الدواعش” التي تمددت حتى بلغت سوريا، وأسهمت بدور ملحوظ في الحرب في سوريا وعليها المتواصلة منذ ثماني سنوات، والتي أنهكت هذه الدولة ذات التاريخ المضيء في العمل القومي.
ولقد تكاملت المأساة بقرار همايوني بطرد سوريا من جامعة الدول العربية، وسحب السفراء العرب من دمشق، وإغلاق السفارات، بل “وتبرع” بعض الدول العربية بتقديم الدعم ـ مالياً وتسليحاً ـ للعصابات المسلحة التي انتشرت في سوريا ناشرة الخراب وتشريد ملايين المواطنين السوريين الذين لجأ معظمهم الى دول الجوار العربي: الأردن ولبنان، ومصر، في حين قصد أهل الشمال تركيا، وما زالوا فيها حتى الآن.. في ظل تعقيدات عربية ودولية ومن أطراف دولية عدة لاستبعاد عودتهم أو تأخيرها، لإعادة بناء “سوريا أخرى” في غيابهم ومن دونهم.
ان الوطن العربي محتل، مرتهن الإرادة، تكاد دوله أن تكون بلا قرار.
ولقد مكن هذا الواقع البائس الولايات المتحدة الأميركية بأن توسع سيطرتها على القرار العربي، كما مكن العدو الاسرائيلي من اقتحام عدد من العواصم العربية، بحيث يستقبل نتنياهو الآن في أكثر من عاصمة عربية، متباهياً بأنه كسر حاجز المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، وتجاوز حاجز العداء الناتج عن احتلال فلسطين.
ان العراق يكاد يكون بلا دولة، أو انه دولة قيد إعادة التأسيس.
كذلك سوريا التي ما تزال تقاتل العصابات المسلحة في الشمال، ومعها قوات روسية وإيرانية (من ضمنها مقاتلون من حزب الله في لبنان).. في حين تصر الولايات المتحدة على إبقاء مئات من قواتها في الشرق والشمال، بينما يهدد أردوغان أنقرة دمشق بضربها إذا هي بعثت بقواتها لتحرير إدلب وسائر الشمال السوري..
أما دولة ليبيا فقد “اسقطت” من خريطة الدول، أقله حتى إشعار آخر،
وتونس تعيش حالة اضطراب مفتوح في الصراع بين سلطة ورثة الحبيب بورقيبة والإخوان المسلمين.
وأما الجزائر فتعيش أزمة التجديد المأساوي لرئيسها المشلول، والذي يتبدى انه لن يمر ببساطة وهدوء كما التمديدات السابقة.
نحن بخير، طمنونا عنكم!
تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية