طلال سلمان

دولة وحدة ولبنانات تقسيميين

يحتل لبنان الكون، بمآسيه وانتصاراته، بأزماته وطموحات بنيه، بخيباته ومباذله السياسية!
من أميركا الشمالية، بالولايات المتحدة فيها وكندا الغارقة في ثلوجها، إلى الكونغو كينشاسا في قلب القارة السوداء، يتبدى لبنان الصغير في أكثر من صورة حتى لتكاد تضيع ملامحه الأصلية ويصبح السؤال مشروعا عما إذا كان ثمة وطن واحد لشعب واحد، أم مجموعات كيانات لقبائل وعشائر وطوائف ومذاهب تعيش متجاورة ولكن بانفصال تام واحدتها عن الأخرى؟!
لا فرح الانتصار بالتحرير عنصر توحيد، ولا الحزن على مأساة المقتولين في صراع على السلطة في البلد الأفريقي البعيد والمحجوزة أجداثهم لشهرين، عاطفة جامعة.
لا اشتداد الضائقة المعيشية يقرب بين »ضحاياها« ويجعلهم يفكرون معا في الحلول أو في اقتراحات قد تؤدي إلى التخفيف من آثار الركود الاقتصادي، وإلى تدارس الوسائل والتدابير التي يمكن أن تسهم في التخفيف من وطأة الدين العام، سواء بتقليص الإنفاق الحكومي على الإدارة العاجزة أو بوقف بعض أبواب الهدر كالتعويضات المبالغ فيها والمجالس التي لا عمل لها ولا إنتاج يبرّر وجودها ألخ..
ولا تعاظم مظاهر الانقسام من حول البديهيات في السياسة و»الرموز« القيادية المثقلة بتجاربها المكلفة، يأخذ اللبنانيين كلهم إلى الدولة، بوصفها ضمانة وحدتهم بل حياتهم، فارضين على المقسِّمين والتقسيميين والمستفيدين من مناخ الانقسام الفرصة لإعلان إفلاسهم أو إعلان توبتهم أو الاندثار..
للوحدة أكثر من مفهوم، والخيانة مجرد اختلاف في وجهات نظر، والمطالبة بإلغاء الطائفية السياسية مدخل للحرب الأهلية، والمقاومة مصدر للإحراج الدولي، ومحاسبة المتعامل مع العدو الإسرائيلي سياسة كيدية تكشف الخلل في التوازن الطائفي، ومن ثم الخلل في الصلاحيات على قمة الدولة!
حتى إدارة مستشفى في الأرض المحررة تكتسب خطورة استثنائية لأنها قد تؤكد أو تنفي التوازن، ولكي يتم تحقيق هذا التوازن المستحيل يتهدد الإقفال المؤسسة الصحية، برغم توفر المساعدات (الأجنبية) اللازمة لإدارتها ومعالجة شعب الجنوب كله فيها!
ومن بعد نسيان الماضي أو تناسي مآسيه وفواجعه، يتحرك بعض السياسيين على الرصيف الطائفي، بالإضراب تارة أو بالاعتصام، بطرح القضايا الخلافية المؤدية إلى الانشطار الطائفي، يستوي في ذلك »إعلان الحرب« على الوجود السوري، أو فرز اللبنانيين »أصليين« و»أصيلين« أو ملتحقين من أبناء »الأطراف« وما تسببوا فيه من طي صفحة الإمارة أو المتصرفية أو الكيان القائم على ثنائية طائفية لم يعد لها ما يقيم نصابها أو يقيم أودها مهما كانت الضمانات الأجنبية قوية ومغرية..
وتُستدرج الدولة إلى موقع الطرف في خصومة، سواء بشخصنتها عبر رموزها، أو بالتعارض ومن ثم التصادم بين مراجعها، فتتسع الخروق التي تجد من يستثمرها للربح الحرام عبر الضغط على الليرة، أو عبر التخويف بسقوط لبنان من ذاكرة العالم والبحث عن مأوى يوفر لأجياله الجديدة فرصة العمل والرزق الحلال.
تشتد الحملات، من الداخل ومن الخارج الذي استعار بعض أصوات الداخل، فإذا البلد محكوم بالموت، وإذا كل ما فيه فاسد أو مفسد أو معطّل أو خرب: من الاقتصاد إلى الإدارة، ومن الجامعة إلى المصح، ومن الأجهزة الأمنية إلى المؤسسات السياسية بالمجلس النيابي فيه والحكومة والقضاء والجيش »المبالغ« في حجمه وفي تعويضات ضباطه وأفراده.
هو الحصار النفسي الكامل يضغط على هذا المواطن الصامد الذي لولا غنى تجربته في الحرب والسلم والمقاومة، لكان انهار من زمان وخرج على الدولة والعالم شاهراً سيفه!
وهو حصار على الدولة بداية، يظهرها مخطئة كيفما تصرفت، وغير عادلة في أي قرار تتخذه…
وإذا ما ترسخ في الأذهان أن التوازن مفقود في قمة السلطة تتخذ القرارات صورة الإجحاف بطائفة لحساب طائفة أخرى، أو صورة تقصّد إلحاق الظلم بطائفة أو بفئة لتكريس هيمنة طائفة بالذات على الحكم ومن ثم على الناس في حقوقهم وفي أرزاقهم.
لذلك تتركز المحاولات على إضعاف صورة الدولة باعتبارها التجسيد السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي للوحدة،
ويكتسب مسلك الحكم أهمية استثنائية، بوصفه المسؤول أو القيم على صورة الدولة، فإن هو أخطأ سُحبت أخطاؤه على صورة الدولة فمسخت أو تمّ تشويهها، وإن هو أصاب مكَّن لفكرتها وكشف التقسيميين والمنتفعين من إضعافها أو تشويهها أو تغييبها.
وأخطر ما يقع فيه الحكم أن يصير طرفا، فذلك مطمح كل الذين يريدون الخلاص من الدولة للعودة إلى »الكيان«، إذ يبرر لهم منهجهم التقسيمي ويظهرهم في صورة الضحايا بينما الوطن هو ضحيتهم الدائمة.
لذلك لا بد من التشديد على أن خطأ الحكم، إذا ما وقع، يكون مفجعاً، بقدر ما هو مؤتمن على صورة الدولة، أي صورة الوحدة… وبقدر ما هو مجسد لنقيض ما يدعو إليه أو يعمل له التقسيميون.
ومهما توغل قادة المعارضات المختلفة في الخطأ فلا يجوز أن تنجر الدولة، ممثلة بالحكم فيها، إلى ردود فعل عصبية، تخرجها من صورتها الجامعة، ليغدو الانقسام مجرد »خلاف فكري« أو نزاع سياسي بين طرفين متساويين في شرعيتهما.
الدولة هي الكل. والحكم محكوم بأن يكون »الكل«، حتى وهو يرد فيسفّه دعوات التقسيميين ويفضح أغراضهم ومصالحهم الصغيرة منها والكبيرة!

Exit mobile version