طلال سلمان

دولة مختلفين توافق

الحمد لله كثيراً.. لقد عاد الهدوء يرفرف بأجنحته الطائفية والمذهبية الزاهية الألوان كقوس قزح فوق ربوع لبنان الأخضر، في حين استعادت الطبقة السياسية، برموزها المضيئة، دورها في إعادة بناء «الدولة» التي هدمتها، وأعادت الأمور إلى مربعها المفضل: تقاسم مواقع النفوذ داخل الإدارة، وتناتش رئاسات المؤسسات العامة… وبراءة الأطفال في عيونهم جميعاً!
صار للدولة رئيس، وأقيمت فيها انتخابات نيابية بديموقراطية طوائفية فريدة في بابها، بحيث إنها تقدمت إلى الخلف خمسين سنة كاملة.. وفي ضوء التزكية الميمونة للوائح المقفلة في وجه الخارجين على النظام بدعاوى العلمانية أو الاختلاط والتقدمية، والفوز الساحق لأركان الطبقة السياسية الذين «استقل» كل منهم بـ «قطيعه»، تنافسوا فتزاحموا على رفع شعار «إلغاء الطائفية السياسية»… وبالاستناد إلى الدستور، وسبحان من يحيي العظام وهي رميم.. فكانت النتيجة أن مكّنوا لها في النفوس وفي النصوص، وبالإجماع!
بعد الرئاسة بمهرجان دولي وقيامة المجلس النيابي على أساس قانون الانتخاب الطوائفي المعتق، كان لا بد من تشكيل حكومة غير عادية… وهي جاءت كذلك بعد قمم عدة، ومشاورات دولية ـ إقليمية ـ عربية استثنائية وفرت لها ثقة نيابية محترمة… لا سيما أن إعداد البيان الوزاري قد استغرق زمناً قياسياً، يضاف إلى زمن التشكيل، ربما لثقة الجميع بأنهم يعدون وثيقة استثنائية ستشكل إضافة جديدة إلى متحف الوعود والعهود التي لم تنفذ من قبل، ربما بهدف تعتيقها، كما الخمرة!
استكمل الشكل: جاء رؤساء وأمراء وكبراء وموفدون خصوصيون ووزراء من الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى، وأقيمت على شرفهم المآدب، وألقيت الخطب ذات الدوي، واستمع اللبنانيون إلى تصريحات باللغات الحية جميعاً، تبشر بالخير العميم والازدهار العظيم للوطن الصغير الذي يستعصي على الموت… وبالمقابل، استعد أبطال صفقات إعادة الإعمار للعودة إلى الميدان بهممهم العالية وعلاقاتهم المذهبة بمكامن الدولار.
تزاحم كبار المسؤولين على قبول دعوات الدول التي اشتاقت إلى لبنان… فقاموا بجولات على العواصم ذات النفوذ، بعضها سياسي وبعضها الآخر سياحي، ومعظمها يستهدف إعادة صورة الدولة الواحدة الموحدة إلى خريطة السياسات الدولية، لا سيما أن لبنان قد اخترق مجلس الأمن الدولي، مؤكداً بطلان الدعاية المعادية التي كادت تصوّره دولاً عدة بسياسات مختلفة..
في هذه الأثناء تكفل السيد حسن نصر الله ببث الطمأنينة وتهدئة روع من ما زالوا يتأثرون بالتهويل الإسرائيلي، فرد على التحدي مؤكداً القدرة على ردع أي عدوان إسرائيلي جديد… بل انه قد تعهد، وهو الذي خبره اللبنانيون، بل العرب والعالم، أنه صادق في تعهداته، بأن يرد على أي قصف إسرائيلي لمنشآت حيوية في لبنان، كالمطار أو مصافي النفط أو محطات توليد الكهرباء، بقصف يغطي مثيلاتها في مختلف أنحاء فلسطين المحتلة.
ولقد اطمأن الناس إلى أن السيد حسن نصر الله سوف ينفذ ما يقول، إذا ما اعتدت إسرائيل، فهم واثقون من قدرة المقاومة وكفاءة رجالها في منع العدوان.. ثم انهم اطمأنوا إلى أن نار الفتنة إلى انطفاء، وأن «السيد» سيشكل قوة ضغط سياسية من أجل أن تنجز الحكومة بعض البعض مما يطلبونه من حقوقهم على دولتهم، خصوصاً أن «حزب الله» ممثل في الحكومة وله وزنه في القرار.
[ [ [
صار في البلد، إذاً، حكومة تمكن مطالبتها بما يتجاوز اتفاقات وقف إطلاق النار! مع أن «البشائر» لا تطمئن، فتعيين لجنة الرقابة على المصارف (خمسة أعضاء) قد استهلك شهراً طويلاً من المساومات التي قد تعطي عنوانها للتعيينات الإدارية عموماً!
وانتبه الناس إلى أن في البلد، أيضاً، مجلساً للنواب… وإن كانت أبرز «إنجازاته»، حتى هذه اللحظة، مماحكات حول تعديل للدستور، لا يريده أحد من نوابه، لكن كل كتلة من كتله تحاول أن ترمي الأخرى بدائها ثم تنسل وقد برأت ذمتها: حاولت… لكنهم أفشلوا محاولتي!
عادت الحياة السياسية، التي لا حياة فيها إلى الدوامة ذاتها:
«الكل» مع الانتخابات البلدية، لكن أحداً لا يريدها، تاركاً لغيره أن يرفض أولاً فيدينه ثم يعتذر به عن عدم إنجازها في موعدها المقرر قانوناً.
«الكل مع النسبية، لكن الذي يخاف من معارضتها يرفق موافقته بمعادل يلغيها، كأن يضيف المغتربين بالمطلق إلى المقيمين، أو كأن يشترط تطبيقها في مكان وتعليقها في مكان آخر، أو يبتدع نسبية في النسبية ترسخ الطائفية وتمكن لها أعمق فأعمق!
الكل مع تخفيض سن الاقتراع، لكن كل طرف يضع لها شروطاً مستحيلة، أو يتبادلون الأدوار، فيرفضها من يقبلها ليقبلها من يرفض المبدأ ثم يتصالح الطرفان على جثمان هذا المطلب الحيوي..
الكل ضد الفساد، لكن الفساد يستشري وصولاً إلى الدواء فضلاً عن الغذاء..
والحقيقة أننا نحصد الثمار المرة لما زرعوه: قانون انتخابي أشوه يمكِّن للطائفية والمذهبية، تاركاً للعصبيات المستثارة أن تأتي بنواب كفاءتهم العظمى في تعبيرهم عن الحمى الطوائفية، فينتهي الأمر بموت المجلس فور ولادته..
وحكومة توافقية افترض الناس فيها قدرة على الإنجاز، لكن شروط التوافق قد تذهب بالقدرة على الإنجاز.
لقد استوفينا الشكل لكن المضمون ظل خارجاً…
ولا تعني هذه الكلمات المطالبة برحيل الحكومة أو تبديلها، ليس فقط لأن ذلك متعذر، بل مستحيل، بل تعني أولاً وأساساً أن يتوافقوا على إنجاز الحد الأدنى… فلقد بلغ اليأس باللبنانيين من نظامهم حده الأقصى وباتوا يرتضون بالقليل القليل، وتواضعوا في أحلامهم حتى صاروا يرون في استمرار الهدوء نعمة إلهية.
ونجاح الحكومة هو ضمانة أساسية لترسيخ الهدوء على قاعدة من الإنجازات ذات الطابع الوطني، بحيث يستعيد اللبنانيون لغتهم الواحدة في معالجة همومهم المشتركة التي أساسها واحد.

Exit mobile version