طلال سلمان

دولة لبنان مدولة

يبدو أن مشروع »تدويل الدولة« في لبنان هو الآن قيد الإنجاز، بينما ما زال المعنيون في الداخل أساساً، ومن ثم في الخارج، يناقشون بغير أن يتوصلوا إلى قرار مشترك ونهائي حول مصير رئيس الدولة القائم بالأمر حتى اللحظة من مقره الرسمي في القصر الجمهوري في بعبدا، والذي يكرر بمناسبة وبلا مناسبة أنه باق في منصبه يمارس مسؤولياته بقوة الدستور حتى آخر يوم في ولايته الممددة.
وبديهي، والحالة هذه أن »تدويل الدولة« قد سبق الخطط والأفكار أو التصورات التي يتداولها المنتصرون على »النظام الأمني« اللبناني السوري حول إعادة تأسيس الدولة في لبنان على قواعد مختلفة عن تلك التي كانت قائمة ومعتمدة خلال »الحقبة السورية«، والتي تولت فيها دمشق مباشرة رعاية »دولة لبنانية« تابعة تلائم مصالحها وهيبتها ودورها الإقليمي الذي تجاوز لعقدين من الزمن تقريباً حجم سوريا وإمكاناتها المعروفة.
وحتى من قبل أن يصدر مجلس الأمن قراره الجديد، المتوقع اليوم، حول لبنان »المتحرر كلياً ونهائياً« من »الوصاية السورية« فإن »تدويل الدولة في لبنان« كان قد قارب الاكتمال بموجب القرارات الدولية الثلاثة التي أصدرها مجلس الأمن في وقت سابق:
؟ القرار 1559، رداً على التمديد، بطلب خروج سوريا، عسكرياً وأمنياً وبالطبع سياسياً من لبنان.
؟ ثم القرار 1595 بإنشاء لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي ألمح إلى أدوار غير لبنانية في تلك الجريمة النكراء.
؟ ومن بعد القرار 1614 والمتصل بدور القوات الدولية في رعاية الخط الأزرق ومسؤولية السلطة اللبنانية عنه بعد التوكيد مجدداً على الجلاء الكامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي عن الأرض اللبنانية المحتلة.
تكفي قراءة متعجلة للتقرير الذي قدمه موفد الأمم المتحدة تيري رود لارسن الأسبوع الماضي حول الأوضاع العامة في لبنان، تمهيداً للحديث عن قوات الطوارئ الدولية ودورها، لنتبين أي قدر من الصلاحيات أعطاها لنفسه هذا الموظف الأممي، مما يتجاوز تقييمه لأوضاع لبنان الداخلية وصولاً إلى علاقاته بمحيطه، سواء ما يتصل بسوريا (ضرورة ترسيم الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين) مع إشارات واضحة إلى استمرار نشاط الاستخبارات العسكرية السورية في الشؤون السياسية (والأمنية) اللبنانية، أو ما يتصل بالوجود الفلسطيني فيه، حيث يقرر صراحة أنه هو من رتب اللقاء بين رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ورئيس الدولة الفلسطينية محمود عباس في باريس، وكاد يقول إنه هو من كتب التصريحات والبيان المشترك.
بل إن تيري رود لارسن يشير الى أنه من نصح بالانتخابات النيابية، ممتدحاً قانونها، منوهاً بنتائجها، مستخلصاً منها أن لبنان يسير في الاتجاه الصحيح نحو الديموقراطية.
ثم إن الموفد الدولي المكلف متابعة تنفيذ القرار 1559 يسجل على الحكومة اللبنانية أنها تعهدت بحل مسألة سلاح »حزب الله« بالحوار، نافياً عن هذا السلاح دوره الوطني، مقرراً أن الأرض قد تمّ تحريرها وبالتالي فليس ثمة مجال لانتحال الحزب صفة »المقاومة«، نافياً عن مزارع شبعا هويتها اللبنانية، مبرئاً إسرائيل من احتلالها أي شبر من الأرض اللبنانية، مع إشارة لا بد منها، وفي سطور معدودة، إلى انتهاكات الطيران والبحرية الإسرائيلية للأجواء اللبنانية..
على هذا فالحدود اللبنانية »مدوّلة«، والانتخابات بقانونها ونتائجها »مدوّلة« أو هي معتمدة دولياً تمهيداً لأن تكون ركيزة للتغييرات الأخرى المحتملة، ومن ثم »لتدويل« هذه التغييرات على قمة السلطة أو في مفاصلها المركزية.
كذلك فإن القرار في هوية »حزب الله« ودوره »مدوّل«، وإذا كان أصحاب القرار قد منحوا اللبنانيين »فترة سماح« فليس معنى ذلك أن الكلمة الأخيرة ستكون لبيروت بل »للدول«، و»الدول« هنا تعني حصراً الإدارة الأميركية وحكومة شارون الإسرائيلية ومن معهما.
ولأن القرار للدول فإن الطوائف تكتسب حجماً استثنائياً، إذ تصبح هذه الطوائف اللبنانية »ذرائع« تموّه وتغطي التدخل الخارجي… ومؤكد أن »الدول« تفضل التعامل وبالمفرق مع الطوائف، تسترضي هذه بزيادة حصتها وتغري تلك بزيادة نفوذها، تسبغ حمايتها على من أطاع وتؤدب من يخرج على إرادتها، على أن تتعامل مع »الشعب« كوحدة اجتماعية لها هويتها الوطنية وحقها المشروع في القرار السياسي لوطنها وفي نظام حكمه، قبل أن نصل إلى مواقع السلطة وكيفية توزيعها كجوائز على المرحبين بالوصاية الدولية.
السؤال الذي يطرح نفسه، على الفور:
أي لبنان سيكون غداً، وأي دولة ستكون لهذا اللبنان الذي يجري الآن استيلاده من قلب فشل »الحقبة السورية«، والذي ستحاول »الدول« أن تستغل في إعادة بنائه، بما يناسب مصالحها، الخطايا المميتة التي ارتكبت في ظل النظام الأمني اللبناني السوري المشترك والتي بلغت ذروة الفجيعة باغتيال رفيق الحريري؟!
لقد كان لبنان دائماً »بلا داخل«، وكانت دولته دائماً »قيد التأسيس«..
وها إن هذا الواقع الذي كان اللبنانيون يرونه مؤقتاً، ويعانون من علله الكثيرة التي تمنع الكيان من التحول إلى وطن لكل أبنائه، يجري تثبيته الآن بمجموعة من القرارات الدولية التي تريح اللبنانيين من التفكير مجرد التفكير بالهوية والدور، ومن »النضال« ضد النظام الطائفي الجائر الذي ينكر على المواطن مواطنيته ويصر على التعامل معه بطائفته أو مذهبه.
إن الممرات بين القرارات الدولية الناظمة للبنان الجديد لا تتسع لقيام »دولة« فيه، وإن كان سيحافظ على الشكل في المواقع والتراتبية لاتصالها بنظام توزيع الكوتا الطائفية التي »تؤبد« وضع »الدولة تحت الوصاية«… ولنستذكر هنا »نظام المتصرفية« الذي كان صارماً في تحديد مواقع الطوائف ونسب تمثيلها في الوظائف العامة، على محدوديتها.
إن العلاقات بين اللبنانيين لن تعود إلى سابق عهدها، في فترة ما قبل الحرب الأهلية ومن ثم »الوصاية السورية«..
كذلك فالعلاقات بين »الدولة« اللبنانية ومحيطها لن تعود إلى ما كانت عليه: لا هي مع سوريا ستعود إلى سابق عهدها في فترة ما بعد استقلال الدولتين، في أواسط الأربعينيات، وإلى ما كانت استقرت عليه في الستينيات والسبعينيات..
ثم إن العلاقة مع الفلسطينيين ستدخل دهليز المساومات المفتوحة مع السلطة حول مستقبل فلسطين الذي يذيب الاحتلال الإسرائيلي احتمالات التسوية فيه بشطب أي احتمال لقيام دولة للفلسطينيين ولو على جزء بسيط من أرضهم، حتى في غزة التي تكاد تغرق في دمها، اليوم، وبعد »الجلاء« الإسرائيلي عن بعض شريطها الضيق..
سيكون »لبنان المدوّل« دولة أخرى غير التي عرفها اللبنانيون وناضلوا ضد نظامها الطوائفي، وضد الجائرين من حكامها.
هذا قبل أن نصل إلى الاقتصاد المتهالك تحت وطأة حوالى أربعين مليار دولار من الديون، وإلى حالة الضيق في الرزق التي تدفع بشبابه إلى الهجرة وتزيد من معدلات الجريمة فيه… واقتراحات الحلول لأزمته الاقتصادية مدولة هي الأخرى، والقرار فيها لصاحب القرار في شؤون المنطقة جميعاً: الإدارة الأميركية ومن ضمنها المصالح الإسرائيلية.
وقبل أن نتطرق إلى القضاء فيه وقد وضعته لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري في »فنائها الخلفي«، يجهز لها ما يمكنها من توجيه الاتهامات وتحديد المشتبه بهم، ثم يتولى بالنيابة عنها توقيف من تطلب توقيفه، حتى من قبل أن تثبت إدانته… مع أن بين رجال القضاء في لبنان من تمكن المفاخرة بكفاءتهم العالية ونزاهتهم التي لا يدانيها شك.
… من يرغب برئاسة جمهورية كل ما فيها مدوّل بما في ذلك القرار بتسمية رئيسها، إما من خلال الإيحاء بالمرغوب فيه، وإما بشطب غير المرضي عنه؟!
قبل التفكير برئاسة الجمهورية هلا نفكر قليلاً بهذه الجمهورية: هويتها ودورها وعلاقتها بشعبها ثم بمحيطها، قبل أن نصل إلى العالم البعيد؟!
إن القرارات الدولية تفيد بحسب القدرة على توظيفها لصالح البلد المعني، أما إذا تجاوزت هذا الحد فلا يمكن تصنيفها إلا بأنها تدخّل في الشؤون الداخلية.
وليس أمراً مفرحاً أن يكون لبنان قد انتقل من تحت »وصاية سورية« عظيمة الأخطاء والمباذل الى »وصاية دولية« تغطي قدراتها أخطاءها، وتخدع المفروضة عليهم بأنهم أصحاب القرار الحر في أمور وطنهم الحر، المستقل والمستمتع بنعم الديموقراطية التي تستولدها الإدارة الأميركية في بلاد الشرق المتخلف من الفوضى البنّاءة، بحسب عقيدة الرئيس الأميركي الذي يكلم الله جورج و. بوش.

Exit mobile version