طلال سلمان

دولة كبديل من حرب اهلية

بحمد من الله وتوفيق منه، أمكن تفادي نشوب حربين أهليتين عربيتين كان يمكن أن تتفجرا خلال الأسبوع الماضي:
الأولى ـ حول الحكومة الجديدة في لبنان، وهل تكون «أكثرية» أو «توافقية» أو «وحدة وطنية»، وقد انتصر الوفاق على الشقاق بعد خمسة شهور من الانتخابات النيابية التي انتظم خلالها اللبنانيون طوابير من الطائفيين والمذهبيين تحرّكهم العصبيات والغرائز وتسحبهم بعيداً عن السياسة، بما هي عمل من أجل الوطن وأهله، لتدخلهم في دهليز النكايات وزرع الألغام على طريق مصالحهم بمنطق شمشون الجبار الذي يحتل الصدارة في أذهان رموز الطبقة السياسية في لبنان.
وها ان الحكومة التي تبدّت كأنها المستحيل الرابع، بعد الغول والعنقاء والخل الوفي، قد استُولدت في لحظة قدرية، من دون خسائر تذكر، اللهم إلا في مستوى بعض من حشروا فيها، في اللحظات الأخيرة، كبديل من كفؤ ضائع أو مضيّع، أو كتعويض عن فشل حزبي لا تنفع التبرعات ببعض المقاعد النيابية في طمس فداحته وانتهاء صلاحية «الحزب العائلي القائد».
أما الثانية ـ فهي «حرب الشقيقين» التي كادت تشعلها، مجدداً، مباراة في كرة القدم في القاهرة بين الفريق المضيف المصري ومنافسه الجزائري على موقع ثانوي في كأس العالم، وكانت المباراة السابقة بين الفريقين قد انتهت بمقدمة ناطقة لمأساة قومية، تتكامل إذا ما انتبهنا إلى أن أياً من الفريقين المتصارعين لم يستطع بلوغ المرحلة الأخيرة، ولم يوفق في أن يحقق لبلاده فوزاً يعوّض الخسارة في رصيد روحه الرياضية وكفاءته في الملعب.
ولسوف تبقى أيدينا على قلوبنا في انتظار المباراة الحاسمة، الأربعاء المقبل، في الخرطوم، خوفاً من أن تتحوّل إلى حرب ثلاثية بدخول السودان طرفاً فيها، نكاية بأحد الفريقين أو كفرصة للتعبير عن رأيه في نظام الحكم في بلاده المهددة بالتمزق، وهو «هدف» لم يستطع أن يحققه أي من الفريقين على أرض محايدة.
ولقد تمنينا لو أن هذه الحماسة الهائلة تدفقت من أجل نصرة الأهداف الوطنية لشعب مصر أو الجزائر أو السودان، وحقوقها معاً في التحرّر والتقدّم وبناء الغد الأفضل، أو من أجل فلسطين في مواجهة الحرب الإسرائيلية المفتوحة على حقوق شعبها فيها، ولو على شكل «دولة» له على بعض البعض من أرضه التي تلتهمها المستوطنات التي تتزايد على مدار الساعة، ويحتشد فيها آلاف الآلاف من الذين استقدموا لتكون «دولة يهود العالم» هي الدولة القائدة في عموم الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً، وما تبقى مشيخات وإمارات ودوقيات تخضع لها وتدفع لها ثمن «حمايتها» منها، وتدور في فلكها كأجرام لا تملك قرارها..
هل خرجنا عن الموضوع وعليه؟!
بل نحن في صميم الموضوع، سواء بما يتصل بالحكومة في لبنان وبيانها الوزاري المرتقب، الذي تتجرّأ بعض «القيادات» على اقتراح صياغة «محايدة» له تسقط منه أي ذكر للمقاومة، تلبية لمطلب لا يتعب من تكراره المفوض الأميركي السابق في الشأن اللبناني، حول ضرورة تطمين إسرائيل وضمان الهدوء لاحتلالها… مع إغفال واقعة بسيطة جرت قبل أيام وشهد عليها العالم كله: لقد أقدمت البوارج الإسرائيلية على فعل قرصنة مكشوفة في عرض البحر الأبيض المتوسط، واقتادت سفينة شحن انطلقت من مرفأ دمياط المصري، قالت إسرائيل إنها كانت تحتوي شحنة أسلحة وجهتها لبنان… لكن البحرية الإسرائيلية أغفلت حمولة السفينة، ولم تحتجز قبطانها أو بحارتها، بل تركتها تغادر «معتقل» أسدود، لتأتي فارغة إلى مرفأ بيروت، بينما ملأت الدنيا ضجيجاً حول السلاح المرسل من مرفأ بندر عباس في إيران إلى «حزب الله» في لبنان في دورة تشمل نصف الكرة الأرضية!. والأطرف أن هذا الضجيج المفتعل والمقصود قد ضربه الخرس بعد يومين، وسحبت أخبار السفينة من التداول، بينما استمر المفوض السامي الأميركي فيلتمان في حملته، ليمنع الحكومة الجديدة من تبني بيان وزاري طبيعي، سبق اعتماده ـ رسمياً ـ في كل البيانات الوزارية السابقة!
إن الاستشهاد بهذه الواقعة ضروري للقول إن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من الفراغ الحكومي في لبنان، وليس أي طرف محلي، وهي هي المستفيد من أي صراع على النفوذ في الحكم الذي يواجه تحديات خطيرة، أهمها ـ بعد الخطر الإسرائيلي الدائم والمفتوح ـ الأوضاع الاقتصادية المتردية، والإدارة المفرغة من معظم كادراتها القيادية فضلاً عن لوثة الطائفية والمذهبية التي ضربتها خلال دهر الأزمة السياسية، وعن التحدي الأمني الذي وجد في تلك الأزمة مناخاً يلائم تعاظمه وتمدّده في غير منطقة من لبنان، حتى وصل ليتخذ ـ ذات يوم ـ من السجن المركزي «غرفة عمليات» يوجّه من خلالها العصابات التي تتستر بالشعار الديني لتوجيه ضرباتها ضد «الدولة» والمواطنين.
إن هذه الحكومة التي استولدها قدر من التضامن العربي ممثلاً بالتفاهم المباشر بين دمشق والرياض، مع قبول مصري معلن، وترحيب دولي لا ينتقص من حيويته التحفظ الأميركي متمثلاً في الإصرار على التذكير بتلك القرارات الدولية التي استصدرت لمصلحة إسرائيل، مؤهلة لأن تنجز، خصوصاً وقد استقبلها اللبنانيون بالقبول والتغاضي عن «الهنات الهينات» في تشكيلتها.
المهم أن تغلّب الحكومة برئيسها الشاب وحشد الوزراء المجربين وأصحاب الأفكار والخطط الطموحة فيها، مصلحة الوطن واحتياجاته على الخلافات التي سقطت سهواً بعدما انتفت أسبابها «الخارجية»، أما الداخلية فهي أقل شأناً من أن تعطل حكومة تريد أن تنجز وأن تعوّض الوقت الضائع في المماحكات، مزايدة ومناقصة، وأن تفيد من الاستقبال الهادئ الذي حظيت به من أجل الاندفاع إلى العمل المنتج وأول عناوينه: إعادة الاعتبار إلى الدولة.
والخيار في لبنان بالذات واضح كالشمس: الدولة أو الحروب الأهلية!
وعسى هذه الحكومة تكون خطوة على الطريق الطويلة إلى الدولة!

Exit mobile version