طلال سلمان

دولة فراغ

هي طلقة في الفراغ، أرسلها رئيس دولة استفاق ذات صباح فافتقد الدولة التي جاء العالم كله، شرقاً وغرباً، عرباً وعجماً، لانتخابه رئيساً لها، حرصاً على الديموقراطية والوحدة الوطنية والازدهار الاقتصادي في الوطن الصغير، درّة الشرق، ونموذج الانتصار على الطائفية والمذهبية والفتنة التي كلما همّت بالنوم وجدت مَن يوقظها لتحتل الشوارع والأحياء في المدن ذات التاريخ المجيد!
هي مذكرة من فراغ السلطة في لبنان إلى موقع القرار في المؤسسة الدولية التي لها مَن يقودها ومَن يقرّر فيها ممّن لا يجدون وقت فراغ للاهتمام بحروب تلتهم أقطاراً مجاورة للبنان إلى حد أن ألسنة النار فيها تكاد تحرقه معها.. لولا أن الفراغ يمنعها من تحقيق هدفها النبيل!
لم يجد الرئيس «حكومة» تؤدي هذا الواجب الوطني علماً بأن الفضائيات والإذاعات والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن حكومتين: واحدة استقالت ولما تستقل، والثانية تمّ التكليف لكن المكلف لما يستطع تشكيلها، في حين يدوي الفراغ في سرايا الحكم!
.. ولم يجد الرئيس مجلساً نيابياً، فالقائم بالأمر يعيش في الفجوة بين نهاية مدته وبداية التمديد لذاته، خوفاً من الفراغ… علماً بأن الفراغ يكاد يشارك الأرزة في العلم الوطني فضلاً عن أنه أساس التشريع بشهادة المغفور له المجلس الدستوري وسائر مؤسسات القضاء المعطّل والتي تلغط الألسنة بمباذل بعض أقطابه، والذي يتهدده الفراغ بشهادة خلو موقع الأعلى رتبة فيه: المدعي العام للتمييز.
… والفراغ يتهدد قيادة الجيش، خصوصاً أن المجلس العسكري قد اختلّ توازنه بالتقاعد وتعذر الاتفاق على بدلاء لمن ذهبوا من أعضائه إلى بيوتهم بحكم السن… فضلاً عن أن مؤسسة قوى الأمن الداخلي يقودها «بديل مؤقت» لمن ذهب إلى التقاعد وإن بقي ظله فيها..
… والفراغ يتهدد الإدارة، ونصف مواقعها أو أكثر، يُدار بالوكالة، وأحياناً بوكيل الوكيل، أو بظل «الأصيل» الذي خرج من الموقع ولم يخرج وظل قادراً على إدارة الفراغ في الموقع الممتاز.
كيف تكون دولة تلك التي يحتلها الفراغ في مركز القرار، تشريعاً وتنفيذاً، اقتصاداً وإدارة؟ فتستقل الجهات كل عن الأخرى، وتنشأ إمارات ودويلات ومشيخات وكانتونات في بعض أرجائها؟ فإذا عكار بعيدة بمسافة فلكية عن طرابلس، وإذا طرابلس مدن عدة لكل «حي» من أحيائها من يحكمه ويتحكّم بأهله.. والجيش الذي ينتظر تحت الشمس وفي عتمة الميليشيات التي تتوالد من ذاتها لتعاظم أعداد المموّلين والمسلحين، دولاً مقنّعة بهيئات ومنظمات تحاول إعادة أسلمة المسلمين وهداية المسيحيين وتكفير العلويين في دولة قائمة على التقاسم الطائفي الآخذ إلى الحرب الأهلية في ظل الفراغ!
وبالطبع فإن الضنية تمضغ همومها في ظل نسيان السلطة لوجودها.. وزغرتا ـ إهدن تكمل بناء استقلالها منعاً للفراغ! أما بشري فقد اختطفها فراغ الدولة منذ زمن بعيد وأنشأ فيها إمارة للنسيان!
… وها هي صيدا مهددة بمصير مشابه في ظل الفراغ الذي يأخذ الدولة إلى مفاوضة مَن شجعته السوابق على اقتطاع مساحة لدولته في المدينة التي كانت كما طرابلس معقل العروبة والوطنية وحاملة لواء تحرير فلسطين؟ في حين أن باقي الجنوب دولة تعيش قلق الاستعداء لأن العدو لا فراغ في مركز قراره بالحرب في أية لحظة، برغم تجربته العاثرة في حرب تموز 2006.
… أما البقاع فقد تشطّر دولاً بقوة الأمر الواقع الذي استولده الفراغ. لم يعد تقسّمه جغرافيا، الغربي والشمالي والأوسط، بل صارت مجدل عنجر غير صغبين، ومشغرة غير جب جنين، وزحلة إمارة الكاثوليك محاصرة بإمارات أخرى طارئة بتلاوين طائفية عدة التهمت «امتيازها» التاريخي، والكل يخاف الكل، وسط فراغ الدولة… أما البقاع الشمالي فقد تقاسمته الطوائف والعشائر ومناطق نفوذ مفتوحة أمام نيران الحرب السورية، وتحولت الدولة إلى قوة فصل ومشايخ صلح تعتمد «الشرع العشائري» عبر عسكرها المعطّل عن الإنجاز.
ومع الاحترام لموقع الرئيس في نظام برلماني ديموقراطي فإن رسالته إلى المنظمة الدولية ليست حلاً ولا هي مشروع حل، بل هي سبب إضافي لتأجيج الخلافات في الداخل بما يمس موقع الرئاسة وهيبتها وحيدتها المفترضة، ويطعن في دورها كحَكَم، بما يجعلها «همسة» في فضاء الفراغ… بينما «الدول» تجتمع لتقرّر مصير المنطقة جميعاً، بدولها وممالكها والسلطنات والمشيخات، بالنفط فيها والغاز، من دون أن تحتسب لبنان من الدول المنتجة للثروة، خصوصاً أنه قد استعان بباخرة تركية لتوليد الكهرباء وصلت متأخرة شهوراً عن موعدها، ثم ضربها عطل يصعب إصلاحه واضطر لبنان لنجدتها بما تيسّر ممّا تبقى من الطاقة فيه، فيذهب كله في فراغ الظلام هباء.
… ومع ثقتي بأن هذه الكلمات ستضيع في فضاء يدوي فيه الفراغ، فقد وجدتني مضطراً لكتابتها حتى لا أتهم بأنني من مشجعي الفراغ… خصوصاً أنني لا أعرف باليقين ما هي طائفة الفراغ؟!

Exit mobile version