طلال سلمان

دولة صندوق جابي

بينما يفتقد المواطن بقايا »الدولة« ويسعى إليها ليحميها ويحتمي بها، يستمر أهل الحكم في جهدهم الخيِّر لاستئصال »الجمهورية« بمؤسساتها وبدورها كناظم للعلاقات داخل المجتمع وبوظيفتها الطبيعية في توفير العدالة أو ما تيسّر منها وتكافؤ الفرص، ولو بالحد الأدنى، والأمن الاقتصادي، ولو بإبعاد شبح الجوع عن صغار الكسبة وذوي الدخل المحدود.
إنها دولة تلغي نفسها بمراسيم جمهورية صادرة عن »مجلس الوزراء مجتمعù«، أو بقوانين صادرة عن المجلس النيابي.. مجموعù!
فالحكم يعتمد أسرع وأنجع طريقة في حل المشكلات حين يداويها »بحلول« وهمية لا تفعل غير التسبّب بمشكلات أخطر.
يشكو الناس من أعطال الهاتف، فتستقيل »الدولة« من مسؤوليتها عن قطاع المواصلات، ويتحوّل الرؤساء فيها والوزراء والكبراء والمديرون إلى مجرد »مستهلكين« ودافعي فواتير، بينما يدفع المواطن فواتير الدولة جميعù ومعها الأعباء الاضافية لجيش الموظفين العاطلين أو المعطلين عن العمل الذين سيزيدون ولن ينقصوا، ولسوف تتضخّم رواتبهم وتعويضاتهم ولا إنتاج.
يشكو الناس من تكاليف النقل وأزمة الاختناق في الشوارع المحدودة والضيقة ومخالفات البناء التي التهمت مواقف السيارات، فتتدخل الدولة بأن تزيد مخصصات النقل متسبّبة في استيراد المزيد من السيارات، معتذرة عن تأخرها في تأمين وسائل النقل العام، التي لن تجد شوارع تتحرك فيها، على أي حال..
يشكو الناس من الارتفاع غير المنطقي وغير المبرّر في تكاليف التعليم، في المدارس والجامعات الخاصة، كما من تدني مستوى التعليم في المدارس الرسمية والجامعة الوطنية، فتتدخل الدولة لكي تدفع إعانات هائلة لمتاجر التعليم الخاص، وفيها الأجنبي والتبشيري والديني والمذهبي، متخلية عن آخر معقل لما كان يسمى »المعارف«، متراجعة أمام الاجتياح الميليشياوي لهيئات التدريس في الجامعة والمدارس الحكومية التي يتناقص عدد التلاميذ فيها بقدر ما يتزايد عدد المعلمين الطارئين (من خريجي ثكنات الميليشيات).
إن الدولة تحرّض أبناءها على أن يهجروا مدارسها وجامعاتها،
والدولة تغذي صناديق الارساليات والبعثات التبشيرية وأصحاب دكاكين العلم وتجار الطوائف والمذاهب الذين احترفوا تخريج الأجيال الوقود للحروب الأهلية، لشدة التناقض في ما يتعلمونه عن تاريخ بلادهم وأمتهم ولاختلاط المبشر بالدين بالغازي الأجنبي والمحرر بالمستعمر والبطل القومي بالمفوض السامي والثائر بسفاح الانتفاضات الوطنية،
الطريف ان الدولة قد جعلت نفسها مجرد »صندوق« يتولى الحكم فيها مهمة »الجابي« و»أمين صندوق« يعمل في خدمة بعض القطاع الخاص: عليها الجباية والدفع، ولمقاولي النهوض الغالي الأرباح.. معفاة من الضرائب!
أي أن المواطن المثقل بالضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة إنما يشتغل ويكدح لكي يدفع لدولته المتهاوية، وباسم إعادة البناء، فلا تفعل الدولة غير تلزيم مهماتها الطبيعية لمتعهدين شطار في مجالات الانتاج المختلفة (هاتف، كهرباء، نقل… وتعليم)!!
وداعù ل»المعارف« التي علَّمت أجيالاً ممن حفظوا ما تبقى من لبنان،
وداعù للدولة وهي تفقد مع دورها مبرّر وجودها، تاركة شعبها بين براثن ذلك الأخطبوط من أصحاب المصالح والاحتكارات وقادة الميليشيات وتجار الدين والطوائف والمذاهب الذين حققوا أرباحù هائلة في الحرب وها هم يحققون أكثر من خلال بيعهم لنا أوهام السلم الأهلي.
ومن أسف أن النقاش المطوَّل حول موازنة 1995 ومشاريع خطة النهوض العتيدة يقع بمعظمه خارج هموم الناس، ولا يسمع المفيد منه أولئك الذين يفترض أن يكونوا معنيين بعدم اندثار الدولة ودست الحكم الفخيم فيها!

Exit mobile version