طلال سلمان

دول”الاصوليات”اللبنانية

كل شيء هادئ على الجبهة اللبنانية..
لكن الاصوليات تتوالد، بلا انقطاع، وتتفرع من »الديني« الى »الطائفي« الى »المذهبي« وبالعكس،
والطوائف التي تأخرت عن ركب »الاصولية« استدركت هذا الخطأ واندفعت الى الاقصى بذريعة استعادة الاعتبار، وبالتالي استعادة الموقع الممتاز في مركز القرار!.. فما دام »الاكثر طائفية« او »الاصرح مذهبية« هو الممثل الشرعي والوحيد »لجماعته«، وبالتالي هو من يفرض نفسه (ومنطقه) على الحكم، فلا فضل اذاً لماروني على ارثوذكسي ولا لشيعي على سني ولا لدرزي على علوي ولا لأرمني كاثوليكي على ارمني بروتستنتي إلا.. بالتطرف في المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية بوصفها الطريق الاقصر لاحتكار تمثيل الطائفة!
ان ما قصرت عنه الحرب، التي يحرص البعض على ان ينفي عنها صفة »الاهلية«، يتم الان وفي فيء ظلال السلم الاهلي: فالفرز الذي بدأ دينيا فطائفيا اتخذ صيغته النهائية، اي المذهبية، وصارت الجهات هويات والمناطق اسماء حركية للطوائف والمذاهب.
وعلى مستوى المدن انقسمت الاحياء حسب انقسام سكانها، وارتحل »الاغراب« ملتحقين ب»ربعهم«، ودائما بدافع الحرص على الوحدة الوطنية!!
ولقد استقرت »الزعامات« على قمة هذا الواقع الديموغرافي: ترفض اي تبديل فيه، لأي سبب كان.. فإذا امتدت »الضاحية« نحو »الحدث« قرعت الاجراس وعقدت الاجتماعات، وأصدرت احكام الحرم بحق البائع، وعومل الشاري وكأنه »معتدٍ آثم« ومن العاملين لإدامة الحرب!. وإذا ما تقرر موقع للمستشفى على تخوم بيروت وليس في قلبها دق النفير واحتسب هذا »الاعتداء الجديد« على العاصمة وأهلها في القائمة الطويلة للتجاوزات والامتهانات والتعديات التي كانت ظروف الحروب تمنع التدخل (ولو بالقوة) لوقفها، أما اليوم فلا يسمح لها بأن تمر اعلانا عن التعديل الذي طرأ على ميزان القوى داخل السلطة وخارجها!
في ظل هذا المناخ المسموم، وفي غياب »الدولة« ومؤسساتها الراسخة، كيف لا يتحوّل النقاش السياسي الى »مهاترات«، والى حفلات »ردح« شخصية، مع تلميحات لاستثارة الغرائز والعصبيات الطائفية والمذهبية؟!
وبديهي، مثلا، ان تكتسي المطالبة بتعديل دستور الطائف بمسوح التظلم الماروني من الغبن الذي ألحقه هذا الدستور بالطائفة التي كانت عظمى.. ومع ان رموز الاصولية الجديدة في هذه الطائفة لا تكتفي من رئيس لجمهورية بإطلاق هذا الشعار، وتستمر تطعن في صحة تمثيله »لمن أُوجد لبنان من اجلهم«، فإن الطرح بذاته لا بد من ان يستنفر الطائفيات الاخرى، فتستنفر هذه المذهبيات عموما، فإذا بين »السنة« من يُطالب بأن تكون ولاية رئيس الحومة اربع سنوات كما »ولاية رئيس المجلس النيابي.. الشيعي«، وإذا المرجعيات الروحية للطوائف تعطي نفسها الحق في »تطويب« هذا الوزير او ذاك، اي في اضفاء شرعية مصطنعة على تدخلها في تسمية الوزراء، وفي قبول او رفض اسباب تعيينهم او اقالتهم او تعديل حقائبهم!
ولعل هذا الواقع بين الذرائع الكامنة وراء القول باستحالة التبديل او التعديل، ابتداءً من المستوى الحكومي الى مستوى الرئاسة الاولى!
تجمدوا حتى لا يهتز الوضع اهتزازا خطيرا.
لكن الجمود لا يفعل غير تعميق الشرخ، فالسلطة ليست واحدة في ظل مجموعة من شاغليها ممن يعتبرون انفسهم ممثلين لطوائفهم ومذاهبهم وليسوا »رجال الدولة«.
الدولة امنية يصعب الوصول اليها عبر الطوائف، والمعادلة محددة تماما: تكون هي او تكون تلك، وما استمر تمويه الطائفيات بالارزة لتبدو كأنها قد دخلت الدولة، فإن الدولة ستظل في الخارج، يتيمة بلا نصير، وسيظل المواطن منبوذا مثلها، لا تعترف به »زعاماته« الا اذا استظل لواءها عبر مذهبيته.
قبل الحرب كنا بأصولية او اثنتين، اليوم يعج لبنان الصغير بالاصوليات من كل جنس ولون.
وقلة من هذه الاصوليات تتوجه بعنفها الى العدو في الخارج، لكن اكثريتها تمارس عدائيتها وعنفها تجاه الداخل، اي المواطن وحلم الدولة فتفتك بهما فتكا ذريعا.
مرة اخرى: تقوم في لبنان دولة او يبقى المناخ المسموم قابلا للاشتعال دائما في صورة حرب اهلية صامتة او معلنة، تعطل الدور والهوية، بغض النظر عن النصوص وعن التمنيات التي تزخر بها العقول والنفوس!
وفي ظل هذا المناخ المسموم تتوطد الآن اركان »دويلات الاصولية« اللبنانية!
طلال سلمان

Exit mobile version