طلال سلمان

دم فضاح جريمة تحمل تواقيع ابطالها

لن تقيّد الجريمة، هذه المرة، ضد الوحش الإسرائيلي وحده… فالدم فضّاح، وقذائف القتل الجماعي تحمل تواقيع الشركاء الثلاثة: كوندليسا رايس وإيهود أولمرت والمتواطئ العربي الذي له أكثر من اسم، أما ألقابه فجليلة.
ليس في الأمر سر يُدارى: وقفت وزيرة الخارجية الأميركية، لدى مضيفها الإسرائيلي، بكامل أناقتها، لتعلن رفضها وقف إطلاق النار قبل إنجاز المهمة … كان العقد الأبيض يرصّع عنقها الغامق السمرة. وكانت حبيبات اللؤلؤ تشبه عيون أطفال قانا المفتوحة على الفراغ. وكانت كوندي شديدة التأثر فأظهرت أسفها الذي لن يرد إلى المقتولين حياتهم، قبل أن تعلن تعطيل القرار في مجلس الأمن حتى يتم تهديم آخر بيت ما بين جنوب بيروت وجنوب لبنان الذي يتاخم ويتداخل مع شمال فلسطين التي أبدل اسمها و أهلها من قبل.
… وفي مجلس الأمن لم يعترفوا بقتلانا. تصدى لهم صديق لبنان جون بولتون الذي يحمل هدية رمزية من بعض نخبه ، فمنعهم من الدخول. قال إن الأطفال تحت السن، وإن البالغين لا يحملون هوياتهم، أما النساء فعويلهن وصراخهن وانتحابهن على من فقدن من أرحامهن ستفرض مناخاً غير صحي على مناقشة موضوع خطير: هل تجاوزت آلة القتل الإسرائيلية الحدود الشرعية ، أم هي تحتاج إلى مهلة إضافية؟
تلعثم كوفي أنان فارتبك، وتأتأ كلمات حاول أن يقسم بها الدم المراق على الطرفين . لقد تقطعت الجذور الأفريقية لهذا الموظف الأممي، وأنسته نيويورك الباهرة نشأته الأولى في غانا التي ساهم في إعمارها آلاف اللبنانيين، وبات يمشي على سلك مشدود بعدما تورّط ابنه في الفضيحة العراقية: إن هو رفع رأسه قُطع، وإن هو قارب الحقيقة أخرج من المنصب الفخم مع تهديد بمحاكمة متأخرة عن ذنوب متقدمة. أما العرب فسعداء بغيابهم، والمندوب الوحيد الموجود يمثل دولة صغيرة، أكبر ما فيها القاعدة الحربية الأعظم للولايات المتحدة خارج حدودها، ومكتب بباب دوّار للعلاقة مع إسرائيل ومحطة تلفزيونية ناجحة مهنياً بما يرجئ المحاسبة السياسية.
فأما رئيس المجلس، وهو فرنسي، فقد تعب من ابتلاع النصف الآخر من الحقيقة. هو لا يملك أن يقولها كاملة. إنه ينتظر المساومة على المصالح عله يستنقذ عبرها وقفاً لإطلاق النار… فلما تعذر عليه الأمر اكتفى ببيان رئاسي وكفاه الله شر القتال مع الحليف الأكبر!
? ? ?
الدم فضّاح، والدم طريقك إلى الجنوب… والجنوب أرض محروقة، وبشر ينزحون كي يستعدوا للمعركة التالية. لا تحتاج إلى دليل، جثث الأطفال توصلك إلى مقصدك. وأولمرت يصرخ في جمهوره الإسرائيلي: لن نوقف الحرب! نحن شعب عصي على الكسر . لكن المجاهدين ما زالوا هناك. ينبثقون من قلب الأرض التي تحتضنهم وتفتح قلبها لتحميهم. هم أهلها، حماتها، صخورها، ترابها، زرعها، شجرها، ورودها. هي بهم تبقى، وهم لها يبقون.
وعرة طريقك إلى الجنوب، فآلة القتل والتدمير والتخريب الإسرائيلية سبقتك، فنسفت الجسور، وشقت بطن الأرض لتقطع التواصل. قتلت الكهرباء واغتالت شبكات المياه، وقصفت خطوط الاتصال والبث الإذاعي. ألم تهدد بأن تعيد لبنان ثلاثين سنة إلى الخلف. ها هي تملأ الهواء بالموت حتى يكاد يستحيل التنفس.
مدن الجنوب خرائب. لكن الناس ما زالوا هناك. قرى الجنوب مهدمة البيوت. لكن الناس ما زالوا فيها ومن حولها. بلا زاد، لكنهم هناك. بلا ماء، لكنهم هناك. جيشنا يتقدم الآن لتصفية البنية التحتية للإرهاب ، يقول أولمرت. لكن الإرهابيين شعب، آلاف، عشرات الآلاف، مئات الآلاف، مليون، مليونان، ثلاثة ملايين. لكأن هؤلاء الجنوبيين يتناسلون بعد الموت. إنهم يتوالدون بأكثر مما تقتل القذائف والصواريخ والقنابل الأميركية في آلة القتل الإسرائيلية. لا بد من قنابل أذكى من أمهات الشهداء. لا بد من اليورانيوم الأميركي لتعقيم النساء في جبل عامل. ما أعند هذه القبيلة، يستولد الشهيد عشرة من الآتين برسم الشهادة..
ها قد بلغنا قانا، فلنقرئ أهلها السلام.
? ? ?
ليست قانا مقبرة. إنها جبين الصلاة، والأيادي التي سقطت قبل اكتمال الوضوء.
لكم أنتم مخيفون يا أطفال قانا. تتزايدون فتزيدون من رعب إسرائيل. فليكن لكل منكم صاروخ، ولتكن لكل أم قذيفة مدفع.
لكم أنتن مخيفات يا أمهات قانا الجليل. باتت إسرائيل تخاف مواجهتكن نهاراً. تأتي في الليل، تخاف عيونكن التي لا تزال تحفظ صور المذبحة. ألستن من كنّ صبايا في 16 نيسان 1996؟ ها أنتن في قلب التحدي. لقد تزوجتن وأنجبتن المزيد من المجاهدين. لم تعلنَّ التوبة. لم تتبرّأن من السيد . لم تتركن قانا مجرّد مقبرة تشهد على الجبروت الإسرائيلي.
وأنتم يا رجال قانا، لقد أضفتم عمراناً إلى هذه البلدة الملعونة فحق عليكم العقاب. نحن نريد قانا مقبرة ومولداً للرعب. نحن نريدها عبرة لمن يعتبر وأنتم تريدونها قدوة للصمود. تحمّلوا إذاً! هذه المرة لن تأتيكم النجدات من بعض العرب، ولا من بعض الغرب. موتاً ستموتون ولن تجدوا من يشيّع جنائزكم! ألم تروا صور الاحتفال القصير في السفارة الأميركية في عوكر؟! ألم تسمعوا البيانات الرسمية عن المغامرين ؟ ألم يتصل بعلمكم ما قاله كبار العرب؟ تنتظرون نجدات هؤلاء القلة من أصحاب الذقون الذين يسمح لهم بالتظاهر تدليلاً على الديموقراطية المشجعة على القتل؟! هل جاءكم ملك أو أمير أو رئيس أو حتى شيخ بعباءة ولقب سام ودفتر شيكات مفتوحة؟ هل طُرد سفير إسرائيلي من دولة عربية؟ هل سُحب سفير عربي من إسرائيل احتجاجاً؟
? ? ?
قانا هي الشاهد والشهيد..
قانا هي كل الجنوب، من جنوب بيروت حتى شمال بنت جبيل وعيترون وعيناتا ويارون ومارون الراس، وحتى شمال الطيبة وكفركلا وعديسة. قانا هي النبطية وصريفا والنميرية وجبشيت وكفررمان وكفرجوز. قانا هي صور والحوش والعباسية وعشرات القرى التي طهّرها دم الشهادة فجعلها تداني أسماء الله الحسنى.
لا البيت بيتك وهو هو بيتك. لا الأرض أرضك وهي هي أرضك. لا السماء سماؤك وهي هي سماؤك. لا البحر بحرك وهو هو بحرك.
ليس ولدك لك، وهو هو ولدك. ولا أنت والده وأنت أنت والده. لا أمه أمه وهي هي أمه.
لك من أرضك قبرك. لك من ولدك الصورة. لولدك الذي ينجيه قدره منك الصورة. لولدك من أمه الصورة، أو لها منه الصورة حيث، للمرة الأخيرة، اجتمعا، أو اجتمعتم. إسرائيل تقرّر إن كنتم عائلة تحيا وترزق وتتكاثر وتبني مستقبلها بعرقها على أرضها وبأرضها، أم مجرّد أجداث ملفوفة في أكياس من النايلون يأتون بمن يعرّف عنكم ليكتبوا أسماءكم على قبوركم الموقتة في انتظار المدفن الجماعي الجديد.
لا دول العرب دولك ولا أنت من دولهم.
العرب أهلك. أنت منهم وهم لك. لكن دولهم ليست لهم وليست معك. لا هم يعترفون بك حتى لا تفسد عليهم هناءة عيشهم، ولا أنت تريد حكّامهم معك.
ولكنهم من دونك ليسوا عرباً..
? ? ?
لن تقيّد الجريمة ضد مجهول. القتلة معروفون بالاسم، مَن باشر القتل ومَن حمى القاتل ومَن تواطأ لطمس الجريمة أو لتبريرها. والمتواطئون كُثُر.
… وثياب الذين قتلوا قبل أذان الفجر ما زالت منشورة على حبال الغسيل، جففتها الشمس كما جففت نجيع أهلها الذين لن يرتدوها مرة أخرى.
ها هم في الصور: قتلى يحتضنون قتلى.
كانت ذراع الطفلة معلقة في الهواء. مدّتها فلم تلتقطها يد أمها، مع أن يديّ أمها مفتوحتان على مداهما بالحب. لم تجد الطفلة أحداً يأخذ بيدها، فظلت يدها ممدودة ومعلقة في الهواء. كانت أمها قد ارتحلت قبلها. لكن الأطفال الذين لما يعرفوا الحياة لن يعرفوا الموت. إنهم فقط ينتظرون من يطوي أذرعتهم الصغيرة ليأخذهم في الرحلة التي لن يعودوا منها.
… والمساعدات الإنسانية تنهمر قوافل قوافل، بعضها بالطائرات، وبعضها بالبواخر المجنحة، وبعضها الكثير بالشاحنات التي ستُنسف قبل الوصول، أو تُنسف الطرقات أمامها حتى لا تصل أبداً. المنظر يذكّرك بنجدات المنكوبين بالزلزال أو الفيضان. الفاعل مجهول أو خارج المحاسبة.
الدول العربية سخية: خيام وبطانيات ومعلبات، وأدوية… كل ما يتطلّبه الصمود خارج أرض الصمود. كل ما سوف تتطلبه الفتنة غداً.
… وما زلنا في بداية الرحلة على درب الآلام.
لكن أحداً لن يسلِّم إرادته، ولن يصير لاجئاً أو نازحاً أو بين بين.. هكذا وعدهم السيد ووعدوه، وهم يصدقون السيد و السيد يصدقهم القول والفعل. ولسوف يصبرون.

Exit mobile version