طلال سلمان

دمشق-القاهرة في مواجهة التطرفين..

تعوّد رؤساء الحكومات الإسرائيلية أن يحظوا باستقبال حار في البيت الأبيض بواشنطن تختلط فيه المصالح المشتركة بالعواطف المرتكزة إلى وحدة التصور أو وحدة الموقف من »الآخرين« سواء أكانوا خصوماً (للطرفين) أم حلفاء.
لكن بنيامين نتنياهو يدخل إلى البيت الأبيض كمن يدخل إلى »بيته« بالمعنى الفعلي وليس مجازاً، فجلّ مَن يلتقيهم من أركان الإدارة الأميركية يماثلونه في الولاء الأصيل لإسرائيل ولدورها في المنطقة، وقد تخلصوا تماماً من »عقدة الذنب« التي حكمت مسلكهم لبعض الوقت ازاء العرب بعدما »حرّرهم« العرب منها.
وفي السياسة وليس في الدين لا يمكن التجاوز عن واقعة استثنائية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية: فإذا ما استثنينا الرئيس الأميركي بيل كلينتون ونائبه آل غور فإن وزراء الخارجية والدفاع والمالية ومعهم رئيس مجلس الأمن القومي هم من اليهود، هذا قبل أن نصل إلى المعنيين بملف الشرق الأوسط (ومفاوضات »السلام« فيه) والذين يشكل اليهود بقيادة دنيس روس أكثريتهم المطلقة.
لم تعد نكتة تلك الملحوظة التي أطلقت ذات يوم عن ضرورة »تعيين من يعمل يوم السبت« في الإدارة الأميركية، بل هي باتت واقعاً ثقيلاً يفرض منطقه على المنظور ثم على زاوية التناول، وصولاً إلى الاستهدافات المرجو تحقيقها بالحركة.
والتهمة الأساسية الموجهة الآن إلى وزيرة خارجية كلينتون الجديدة، مادلين أولبرايت، ليست يهوديتها وإنما هل تعمّدت إخفاء هذه الحقيقة أم لا؟! وأعلى الأصوات التي تطالب بمحاسبتها تصدر عن اليهود وليس عن الأميركيين الطبيعيين.
وبعيداً عن أي تفكير عنصري أو ديني، فمن المستحيل اعتبار هؤلاء جميعاً من الملائكة أو من »المحايدين« و»المتطهرين« و»الوسطاء الشرفاء« بين طرفين أحدهما يزعم لنفسه الفضل في بعث إسرائيل، دولة اليهود في العالم أجمع، والثاني هم »العرب« الذين يقاتلون ضد هذا الوعد الإلهي والحق التوراتي الأكيد.
ثم إن بنيامين نتنياهو قد وصل في اللحظة المناسبة لكي يكون في موقع »السيد«.
إنها لحظة الذروة في تحقيق المشروع التاريخي: التفوق الإسرائيلي كاسح ويسحب نفسه على الحاضر والمستقبل، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والانهيار العربي قد تجاوز أي ترقب أو تقدير وتداعياته غير محدودة وشاملة على المستويات كافة: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً واجتماعياً الخ..
وبمعنى ما فإن انتصار »التطرف« الإسرائيلي بشخص بنيامين نتنياهو ونهجه هو ثمرة طبيعية لهذا الانهيار العربي المعزز أو الناجم عن التحولات الهائلة التي شهدها الكون في العقد الأخير.
لقد وصل نتنياهو على رأس موجة التطرف المطالب بالانتصار المطلق بينما أمواج الاعتدال الاضطراري أو الحلول الوسط أو التوازنات التي كانت تفرضها الحرب الباردة، على المستوى الدولي، قد انحسرت تماماً جارفة في طريقها الكثير من مرتكزات الصراع العربي الإسرائيلي، وبالذات صورة إسرائيل كعدو »رسمي« للعرب مجتمعين، على تفاوت درجات العداء المعلن (اضطراراً) أو الفعلي بضرورات حماية الذات.
كان »صديق العدو عدواً«… أما الآن فإن صديق العدو، بل حاميه وحليفه وضامن تفوقه وهيمنته، هو الملجأ ومصدر الأمل في تسوية غير مهينة، هذا بالنسبة »للمتشددين« من العرب (الذين لم يعودوا وحدة أو واحداً أو متلاقين على هدف واحد أو حتى على موقف واحد)… أما بالنسبة »للمهرولين« من العرب فقد تحولت واشنطن في لحظات معينة وفي حوادث مشهودة إلى »كابح« يهدئ من تسرّعهم ومن تبرّعهم بالتواقيع على بياض، وتحاول وقف انهياراتهم التي كادت تلغي دورها ليس كوسيط بل حتى كشريك ثالث.
من »كامب ديفيد« إلى »اتفاق الخليل«، مروراً »باتفاق وادي عربة«، تحول الراعي الأميركي إلى مجرد »شاهد زواج« غير طبيعي ليست شرعيته هي الأساس في قيامه وإنما طبيعته كأمر واقع ليس فيه غابن ومغبون ولا تصح إدانته بأنه قد تم بالإكراه..
كان »كامب ديفيد« السقف، أما الآن فإن »اتفاق الخليل« يرسم الحد الأقصى لاحتمالات »التنازل« الإسرائيلي عن أرض الغير المحتلة بقوة السلاح.
وصار الرصاص الذي يتلقاه الصامدون »عربي« المصدر، إلى حد كبير.
وهؤلاء »الصامدون« هم المتهمون بالتطرف الآن..
والحقيقة الناصعة أن سياسة الهيمنة المطلقة التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية هي ذروة التطرف، ربما لهذا لا يبدو نتنياهو في عين واشنطن متطرفاً إلا في ألفاظه، أما سياسته فمعتمدة وموضع رعاية خاصة بدليل الجهد الاستثنائي الذي بذله دنيس روس من أجل إنجاز »اتفاق الخليل« الذي صُوِّر للناس وكأنه »اعتدال« طارئ على نتنياهو بينما هو تنازل فلسطيني يكاد يتخطى حاجز الاتهام بالخيانة.
والتطرف الأميركي يستند، أول ما يستند، إلى هذا الخضوع العربي شبه المطلق، إلى ما »تفرضه« تل أبيب على واشنطن فتفرضه هذه على العرب بوصفه »الخيار الأخير« وربما »الخيار الوحيد« يضيعون إن هم لم يقبلوه فوراً وبغير نقاش..
ولعل الموقف الأميركي الضاغط باستمرار على القاهرة لمنعها من ممارسة دور قيادي في منطقتها هو أبرز الشواهد على هذا التطرف الذي يأتينا صوته من تل أبيب بينما رأسه في واشنطن.
فإذا كان مسلك النظام المصري، وريث كامب ديفيد والمنضبط داخل إطاره الضيق، غير مقبول في واشنطن فمن المنطقي أن نفترض أن ضغوطها (العلنية أو المدارية) على سوريا ستكون أشد وأقسى بما لا يقاس.
ولعل سوريا، بوعي منها لأهمية تماسك الموقف المصري كقاعدة ضرورية لتوفير الحد الأدنى من التماسك العربي، تبذل أقصى الجهد في إعادة تجميع ما تفرّق بعد قمة القاهرة حول هذه الممانعة المصرية التي تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة لعل أبرزها ما تجلى عبر »معركة« المؤتمر الاقتصادي في القاهرة، أو في »معركة« اتفاق الخليل التي أُعطي »شرف« إنجازه، في اللحظات الأخيرة، وبالشروط الإسرائيلية إلى الملك الأردني.
لقد بدأت »التجريدة السورية« بالقاهرة، وها هو نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ومعه وزير الخارجية فاروق الشرع، يختتمانها اليوم في القاهرة، لتقييم النتائج ورسم الحركة التالية في مواجهة الضغوط المتجددة والمتزايدة التي ستوجه الآن إلى العرب مجتمعين في الموقف السوري (ومعه لبنان)..
والحد الأدنى من التماسك العربي قادر على الفعل والتأثير،
فما زال العرب »مصلحة أميركية عليا«،
وما زال بالإمكان تعديل شروط »الصفقة العتيدة«، لأن »السلام« في هذه المنطقة الحساسة والمهمة جداً هو بدوره »مصلحة أميركية عليا«، أما بالنسبة لإسرائيل، وبغض النظر عن ادعاءاتها، فهو في مستوى »الأحلام«.
و»التطرف« ليس أداة انتصار إلا إذا انهار الخصم أو أسقط من نفسه من دون قتال.
فلنعط التطرف فرصة أن يفعل في »العدو« بدل أن نكافئه بالاستسلام المجاني، ومن قبل أن تبدأ المواجهة… القاسية.

Exit mobile version