نشر في جريدة “السفير” بتاريخ 23 نيسان 2004
دم، دم، دم… كثير من الدماء! حيثما التفتَّ من حولك تتناثر الجثث مقطعة الاوصال! تفتح الجريدة فتصدمك صور القتل! تشغل التلفزيون فتنهمر من فضائياته سيول الدماء وتتراكم أشلاءُ المقطعة اوصالهم!. بيوت مهدمة ودماء! سيارات منسوفة ودماء! ثكالى وارامل يتكومن نائحات والدماء تلون زوايا الموت من حولهن…
لا أخبار عن العرب إلا تلك المكتوبة بدمائهم. دماء فتيتهم ودماء كهولهم. دماء نسائهم ودماء اطفالهم. دماء حاضرهم ودماء مستقبلهم.
هم مقتولون دائما، إما برصاص الاحتلال كما في فلسطين وفي العراق، وإما برصاص الغلط والضياع عن الطريق والاصطدام بالذات، داخل السلطة وخارجها، كما في السعودية والمغرب والجزائر وتونس ومصر واليمن والاردن والسودان… الخ.
ندر ان ظهر العرب كمقاتلين… وحتى اذا كانوا في موقع المجاهد كما في فلسطين فان الرعب الذي دب في اوصال اخوانهم، بعدما انطفأ الأمل بالتحرير او كاد، يدفع الى ”انكارهم” والتبرؤ منهم.
الجهاد إرهاب، أما القتل الجماعي برصاص الاحتلال فهو تحرير للعراق من دولته، بتقسيمها، ومن شعبه بزجه في حمأة حرب اهلية لا تبقي ولا تذر..
اما القتلة فموحدون في الثياب والسلاح والاهداف وحتى في ملامح الوجوه الناطقة بغربتها عن هذه الارض السمراء.
واما المقاتلون فأشتات من الناس، لا يجمعهم دائما الهدف الواحد، ولا يوحدهم دائما العدو الواحد، ولا تكتلهم المواجهة في جبهة واحدة.
لهواة الإحصاء ان يجمعوا اعداد القتلى من العرب يوميا! اما في السياسة فلا قيمة لمن اضاعه الغلط او الانحراف او التعصب عن هدفه… كذلك فلا اعتبار لمن اسقطه الهرب من مواجهة العدو في المكان الصح والزمان الصح وبالشعار الصح.
ليس كل مقتول شهيدا للقضية،
وليس كل قاتل مجاهدا في سبيل الله او في سبيل الوطن.
لو توحدت دماء المقتولين، لتبدل التاريخ!
***
من يقتل العروبة باسم الاسلام مجرم وليس مجاهدا.
ومن يقتل الاسلام بالعروبة مرتد وليس صاحب رسالة او ناشر دعوة. فاغتيال العروبة بالاسلام، في هذه اللحظة، تواطؤ مع الاحتلال، نادرا بوعي، وفي الغالب الاعم بغير وعي..
واغتيال الاسلام بالعروبة، في هذه اللحظة، خدمة مجانية للاحتلال، اسرائيليا كان ام اميركيا، توفر عليه المواجهة المباشرة مع اهل الارض التي منها انطلقت الرسالة المقدسة ومنها ايضا جاءت الهوية الموحدة لأهلها المؤمنين بالرسالات جميعا من داخل انتمائهم الى امتهم وليس من خارجه او من خارجها.
واعظم خدمة يمكن ان تقدم، في هذه اللحظة، للاحتلال، اميركيا كان ام اسرائيليا، انما تتمثل في اشتباك مفتوح بين العروبة والاسلام يشغل كل ”المؤمنين” -سواء بالارض طريقا الى السماء، ام بالرسالة طريقا الى غد افضل للانسان- عن الاحتلال ”الغريب” عن الارض كما عن الدين الحنيف، والذي يكنّ لانسانهما عداء لا تذهب به الا المقاومة الباسلة التي ان هي لم تحفظ الارض لم ينفعها الدعاء أناء الليل واطراف النهار.
***
كل الجبهات مفتوحة… خدمة للاحتلال!
الاقليات العرقية، الاقليات الدينية، واقليات التطرف العنصري او السلفي.
والاحتلال يحاول ان يفيد من اثارة كل ”المسائل النائمة” وكل ”الجراح الغائرة” التي خلفتها عهود احتلال اخرى، ولم تنجح في معالجتها العهود الاستقلالية والانظمة التي حكمت باسم الثورة او تلك التي حكمت باسم الثروة معززة بالسيف الذي ربط العرش بالكتاب فاحتكر الدين والدنيا جميعا.
كل الجبهات مفتوحة… على الفتنة!
والاحتلال يلعب بالأكثريات كما بالأقليات مستخدما دائما ”سحر” السلطة، في ظله، ومن اجل ادامته اطول فترة ممكنة.
لمن السلطة؟! لاي اكثرية؟ وأين موقع الاقليات فيها؟
الاكثرية في الدين تُقسَّم على المذاهب لتشتبك في ما بينها في صراع على السلطة قد يذهب بالدين كله.
والاكثرية في الانتماء القومي قد تُصدم بالاقليات الاثنية لتصور وكأنها ”عنصرية” تلغي ما عداها او تقهر ما عداها مما يبرر مطالبتها بالانفصال.
هكذا يمكن ان يُشطر العراق الى ”دول” بعدد طوائفه لا اديانه، وبعدد عناصره المكونة، ولو كانت اقليات معدودة لم تكن لها مشكلة في اي يوم مع عروبته، بل هي كانت شريكة الاكثرية في المظالم التي لحقتها من حكم الطغاة الذين دمروا اول ما دمروا الهوية العربية للبلاد.
***
دم، دم، دم… كثير من الدماء تغطي وجه فلسطين حتى تكاد تخفيه، وانظمة الهزيمة تضحي بما تبقى من فلسطين، شعبا وارضا، لتحمي وجودها.
وكثير من الدماء تغطي وجه العراق حتى تكاد تطمس هويته.. وانظمة الهزيمة تكاد تتركه لريح الاحتلال بوهم انها بذلك انما تحمي وجودها.
من يعيد توظيف الدم من اجل الانسان في ارضه: تلك هي المسألة!